الجمعة، 29 يناير 2010

جمر قلبي

أخذني حديثي مع طالباتي في مقرر الأدب والفنون، وقد ناقشنا خلاله الحضارة الهندية العظيمة وفنونها، الى مراجعة حارقة للنفس، وكم أكره (أنا) جلسات مراجعة النفس، كم أمقت الدوران في دخيلة قلبي، كم هو أحمر ودموي ونابض ومتألم وحقود وعاشق ومتهور وجبان هذا الداخل!! متناقض هو أيضا ومعقد، يصعب عليّ التعامل معه.. وعندما تجبرني الدنيا على أن أتقوقع داخله، فإنني لا أخرج منه عادة إلا مرهقة وحزينة.. وأبعد ما أكون عن الرضا، أو المصالحة مع النفس.
أتيت وفتياتي على الحديث حول مبدأ «الدارما» في الأديان الهندية القديمة، وحاولت وإياهن أن نتوصل إلى تصور واضح حول هذا المبدأ الذي يعني، بشكل عام ومبسط، الطريق الصحيح للحقيقة الوحيدة التي تمثل نواة الحياة، وهي حقيقة تختلف من إنسان لآخر، وعندما يصل الإنسان لمعرفة طريقه الحقيقي، ودوره الخاص في هذه الدنيا، يكون قد وجد الدارما الخاصة به. لم يكن من السهل استيعاب هذا المبدأ العميق الموغل المعنى في الفلسفات الهندية الأثرية القديمة، خصوصاً بمفاهيمنا الدينية الحديثة (نسبياً) ومنطقنا المغاير تماماً حول علاقة الإله بالبشر، ودور هؤلاء الأخيرين في الحياة.. إلا أن إحدى الفتيات أكدت أنها وجدت «الدارما» خاصتها، وجدت الحقيقة المطلقة، وهي تعرف تماماً دورها في الحياة، وعلى الرغم من إيماني التام بأنها لم تجد شيئا،ً وليست على يقين من شيء أبعد من وجود أنفها أعلى وجهها. إلا أن شعورا بالأسى الساحق طغى على قلبي، منذراً بواحدة من جلسات محاسبة النفس المقيتة.
ما أجمل يقين العمر الصغير، عندما كنت أعتقد أنني أعرف كل شيء، ويقيني تام ومتكامل، وأسئلتي كلها تملك أجوبة، وأجوبتي كلها تملك حججاً صلبة، عندما كانت خططي واضحة وغاياتي لا سبيل لإعاقة طريقها، عندما كنت متأكدة.. واليوم، تحديداً اليوم، تبدو لي كل الأشياء مقلوبة على رأسها بدلاً من الوقوف على أقدامها، يبدو الطريق مضبباً والغايات غريبة عني وأنا التي صنعتها، ليس لدي سوى أسئلة.. مكررة.. مملة.. سمجة، مثل الرطوبة الرابضة في يوم صيفي قائظ.. وأستغفر الله أن تحضرني أي أجوبة، تلك.. كاذبة، مخادعة، مثل حبة الأسبرين المسكنة للألم، ما إن يزول مفعولها حتى يضرب السؤال على العصب، حارقاً، لاسعاً، مكهرباً الجسد بأكمله!!
ثم ما عذاب الضمير هذا الذي لا يتركني أتنفس؟! يقال إن عذاب الضمير، هو ظاهرة أنثوية بامتياز.. فنحن خُلقنا لتعذبنا ضمائرنا التي لابد وأن تكون ذكورية التكوين.. يحرقني ضميري لأنني لم أضع صغيرتي في سريرها في تلك الليلة التي اصطادني فيها اجتماع، ويلسعني، لا سامحه الله، لأنني لم أحضر هذه الندوة التي كان يجب أن أشجع موضوعها، يؤنبني لأنني اشتريت هذا الحذاء المبالغ في قيمته، والتي يمكن أن تضع طعاماً على طاولة عائلة أخرى، أو تعلم أبناءهم، أو تطبب أجسادهم، ويعذبني كذلك اذا اشتريت ذلك الرخيص الذي آلم قدمي وبدد نقودي في صفقة خاسرة، يحرقني قلبي أن الكمبيوتر يأخذني من طبخة رائقة أقدمها لأسرتي من صنع يدي، وينقلب عليّ عقلي اذا أضعت وقتي في المطبخ متجاهلة ذلك الكتاب الذي ينتظرني بمذاقه الذي لا مثيل للذته.. إن ربطت شعري وددت إطلاقة، وإن أطلقته وددت ترويضه في عقدة.. لِمَ لم أجد «دارمتي» لحد الآن؟ وهل النظرية الهندية التي تقول إن وجودنا بحد ذاته هو عذاب يمتد بامتداد رغباتنا وشهواتنا وتطلعاتنا، هي نظرية حقيقية؟
انها مؤامرة حقيقية ضدي، أبطالها ضميري الوقح وقلبي الدموي وعقلي المتهور، الفرسان الثلاثة الذين يشرفون -بلذة- على هلاكي. وقد تحالف هؤلاء الثلاثة مع بوذا الحضارة الهندية وكونفوشيوس الحضارة الصينية، فأستمع لبوذا يقول «نحن نفكر، نحن نكون»، فيما يرفض كونفوشيوس أن يفكر في أبعد من الاصلاح الدنيوي فيقول «لم نفهم الحياة بعد، فكيف يمكننا أن نفهم الموت؟».. وبين هذا وذاك، يتلذذ عقلي بشتات الفكر الفلسفي، ويتعذب قلبي من رياضة عقلي المضنية، وضميري يشجع كليهما على الإمعان في أذيتي.. وإذا ما صحّت كلمات البوذا «نحن ما نفكر، كل ما نكونه يتأتى من أفكارنا، بأفكارنا نصنع العالم»، أجدني قد لا أصنع شيئاً لآخر يوم في حياتي، أو قد أصنع ثورة تأتي عليّ وعلى أعدائي!!
آخر شي..
يقول البوذا كذلك «إن التمسك بالغضب كالقبض على جمرة ملتهبة، بقصد رميها على إنسان آخر، لكنك أنت من يحترق».. فلمن أحرق، ولايزال، يديه بجمرات غضبه، كما أفعل، لنتفق على وضع الجمرات جانباً اليوم، ولنتسامح، قبل أن تترك جمرات الغضب كفوفنا محروقة مشوهة.

الغترة أم الفكرة؟

لا يمكن لأي إنسان يؤمن بمفهوم الدولة المدنية، وبأهمية الديمقراطية، كعمود رئيسي، ووريد حيوي لها، إلا أن يؤمن بالتفعيل السياسي للأدوات الرقابية لآخر منتهاها، وبأقصى طاقاتها. ومن هنا، نكرر تلك الجملة التي تيبست وتغضنت وتقيحت، ونحن نتقاذفها من نوافذنا تحت شمس الكويت الحارقة: «الاستجواب حق دستوري».
هو كذلك، ولا شك أن الحكومة لو التزمت منهج «إمش عدل يحتار عدوك فيك» لقطعت الطريق على الاستجوابات التي شلت البلد ومرافقه وحتى حواس مواطنيه.. ولكن هل النظام الديمقراطي الدستوري هو فقط تفعيل للأدوات الرقابية والتنفيذ النصي للقوانين ومواد الدستور؟
لا يمكن للديمقراطية الحقة أن تكتمل من دون أخلاق، من دون «رمز شرف» يحمي الديمقراطية الرقابية من التوحش والتعسف، ينأى بها عن النهش في أعراض الآخرين وأخلاقهم، ويرتفع بها عن شخصنة الصراع.
النهج المتداول على الساحة السياسية الكويتية الآن هو نهج دستوري يتربص به المتربصون، يفعّلون مواده لتنقلب عليه، يرجرجونه لتسقط أخلاقياته في القاع، وتطفو نواقصه الإنسانية إلى السطح، مكبرة، مضخمة، صفراء مقيتة للناظرين. لدينا دستور، يستخدمه «ممثلو الأمة».. على المسرح الديمقراطي، يشقلبونه ويتقاذفونه، ساعة يعرونه، تاركيه يرتجف برداً في خواء «المسرح».. وتارة يقمطونه بألف وشاح أسود، حتى يختنق من الحرارة. ونحن على كراسينا مشدوهين مشدودين، لا ندري أنصفق للمشهد الهزيل أم نضحك عليه! أم نترك كراسينا غاضبين. ثمن باهظ هذا الذي ندفعه جميعاً لديمقراطية بلا أخلاق، بلا «رمز شرف»، بلا حنكة، تجعلنا نختار معاركنا ونقدم الأهم على المهم، ونتغاضى، وتلك أهم الممارسات السياسية، عن بعض الخطأ من أجل الكثير من الحق والخير.
لست في عارض تبرئة الحكومة، فالمثل يقول، الرقصة تحتاج لطرفين.. والطرفان، بلا شك، يرقصان في جنازة ليس لها صاحب، أو كلنا أصحابها، ولكننا لا نريد أن نمشي خلفها. ولست في عارض الدفاع عن رئيس مجلس الوزراء، حيث إنني، وبكل وضوح، لا أفهم أبعاد اللعبة السياسية. فهناك شيك مكتوب من رجل، هو في أرفع منصب قيادي في الدولة، لآخر هو في أرفع منصب رقابي في الدولة.. ومهما كانت الملابسات والتبريرات، فالوضع لا يسر الناظرين للمشهد السياسي الديمقراطي الحق، ولكن، هل المطلوب إصلاح الخلل، أم المطلوب هو رأس الشيخ ناصر؟
في الجواب عن هذا السؤال تتجلى الأخلاق، تتغير أساليب المعالجة، وتتمحور لغة الحوار. الجواب ينبئنا بما سيكون، وما كان .. لا ينبئ بخير. التفاتة لأسماء المستجوبين للشيخ ناصر ووزرائه تخبرنا الكثير، نهجهم في تقصي الحقائق وطريقة وصولهم للاستجوابات يدلنا على نوعية «الرحالة»، وعلى تاريخ رحلتهم وعلى غاياتهم المنشودة.
بلا شك أريد استجوابات تحميني وتحمي بلدي من تعسف القادة «التنفيذيين».. أريد استجوابات تستهدف أفعالاً لا أشخاصاً، استجوابات تسقط سياسات لا رؤوسا، استجوابات تعدل أوضاعاً وتغير منهجية، لا تبدل غترا وشماغات..
تصيبنا الاستجوابات الحالية بتواليها الكريه بالغثيان الشديد، ونحن ندور في فلكها بصورة تبدو لا متناهية، فلا تكاد الحكومة تتشكل، بل حتى قبل أن تتشكل، حتى يبدأ التهديد والوعيد، ولاتزال الحكومات المشكلة ومجالس الأمة المنتخبة ومنذ خمس سنوات تدور في الحلقة نفسها، حتى حفظنا جميعاً خطوطها وتعرجاتها تماماً.
بتنا نتسلى مع كل تشكيل جديد بالتكهن حول أول استجواب وأول مستجوب، ثم نمرر الوقت بتخمين موعد الحل بعد أن نقرأ عشرات المقالات التي تعدد علينا خيارات رئيس مجلس الوزراء في التعامل مع الاستجوابات، ثم تطالبه في النهاية بالاستقالة. وقبل أن نتمكن من إفراغ معدتنا بعد توقف هذه اللعبة الدوارة، تبدأ دورة جديدة، فنحبس أنفاسنا، ونرد ريقنا إلى جوفنا وندور، ندور بشكل.. يثير الرثاء.
لا أدري ما هو الحل، فمشكلتنا ليست في أشخاص، ولكن في منهجية مريضة تعمل على «تدويخ» الناس وزغللة أبصارهم لتمرير المصالح من فوق الرؤوس المنحنية بغثيانها نحو الأرض. أود أن أتوقف لوهلة فأبلع ريقي وأنظر شيئاً يُبنى في بلدي، مشروعاً يتيما، أو تقدماً يُحرز على أي صعيد، أي تغيير ...أي خطوة خارج الحلقة المقيتة قبل أن تنهزم آمالنا ومحبتنا لبلدنا وثقتنا في نظامنا، ففي هذه الهزيمة نهايتنا.. جميعاً.
آخر شي
إخواننا اللبنانيين، ألم تتعبوا من الدوران في حلقتكم كذلك؟ تشكيل وزاري عسير، وبيان وزاري أعسر، ولا تكاد الأمور تستقر، حتى تتعكر.. أعانكم الخالق ويانا، وخلصنا ممن تعرفون ونعرف.

ومن الحب ما قتل

في رحلة لبرشلونة الشتاء الماضي، قايضت زوجي حضور مباراة كرة قدم معه، مقابل أن يحضر هو حفل أوبرا معي، وكانت التجربتان رائعتين بحق.. وكنت الرابحة الكبرى بلا شك في هذه المقايضة. في البداية كنت متأففة من حضور مباراة رياضية لم تستقطب اهتمامي يوماً، وكل ما يتعلق في ذهني حول كرة القدم، هو تعليق والدي الطريف الذي يتساءل من خلاله: لم يركض كل هؤلاء الرجال الكبار خلف كرة يتيمة، ألا يشتري كل منهم كرته الخاصة و«يفكونا»؟.. إلا أنني، وحال اقترابي وزوجي من ملعب برشلونة الضخم، انتابتني حالة من التحفز والانسجام لم أعتقد أن تثيرها فيّ رياضة يوماً ما. تلاشينا أنا وزوجي وسط زحام أخاذ، أصبحنا جزءاً من كتلة قبلتها الملعب الأخضر، جزيئات متجانسة في بحر بشري ضخم يهتف كله للاعبيه تشجيعاً أو زجراً.
أخذت التجربة عليّ كل حواسي، عاجزة عن فهم كيف يمكن للآلاف المؤلفة الحاضرة للمباراة أن تندمج اتفاقاً، وتتفق اندماجاً، على التشجيع غناء أحياناً، وتأوهاً أحياناً أخرى، أن تتجاوب بألفية بشرية، أن تتماوج كبحر شاسع متوافق، فيقف المشجعون رافعين أيديهم، ثم يجلسون ليقف جيرانهم معلقين أيديهم في الهواء، مكونين موجة بشرية ضخمة بديعة الألوان، الموجة الوحيدة التي لها صوت بشري متناغم. من وقتها وقعت في غرام كرة القدم، مؤكدة لزوجي، وعن صدق اعتقاد مني، أن الطائفية والطبقية وغيرها من الخلافات التي قسمتنا على بعض ككويتيين، يمكن تجاوزها بفريق كرة قدم. نعم، فبعدما فشلت كل النداءات بالوحدة الوطنية والتحذيرات من خطورة انقساماتنا في صنع موجة كويتية متجانسة، يبقى الأمل في كرة القدم.. ستصنع الكرة، حسب ما كنت أعتقد، هذه الموجة بكل تأكيد.
ولكن، يبدو أن موجتنا عاتية متخبطة لا تبقي ولا تذر، حتى أنها قذفت بي على شاطئ اللامبالاة الرياضية الذي كنت عليه قبل زيارة برشلونة. لا أجد ما يثيرني في رياضة كرة القدم العربية سوى تساؤلات مريرة لا تمت للرياضة بصلة.. أن ما الذي يحدث لكرة القدم الكويتية تحديدا، والعربية عموماً، فيحولها من مباريات ترفيهية، وتمثيل وطني عالي المستوى، إلى حروب أهلية داخلية أو إقليمية ضارية؟
مما لا شك فيه أن الحساسيات التي يثيرها التنافس الرياضي، هي حساسيات طبيعية ومتلازمة لكل شعوب الأوطان المتنافسة، ولكنها تبقى حساسيات «شعبية» نتائجها تصب في اتجاه تعزيز الوطنية من دون الدخول في صراعات سياسية. إلا أن «الموضة» دائماً مختلفة عندنا، فنحن نستورد الفكرة، ونعيد تصنيعها بأبخس الأثمان، وبأرخص «العقول» العاملة. وها هي كرة القدم اليوم سبب لأزمة سياسية بين مصر والجزائر، وأزمة برلمانية في الكويت، وأصبحت الرياضة التي كانت لتمثل واجهة وطنية، جبهة صراع محلي وإقليمي. لماذا نشوه كل فكرة حلوة ونخرب كل توجه مفيد؟ نبالغ نحن في كل ما نستورد، نشتري مساحيق التجميل من مصنعيها الذين بالكاد ترى آثارها على وجوههم، ونلطخ بها وجوهنا، نستجلب الأزياء التي تُلبس برقة وتناغم، لنكومها على أجسادنا لاستعراض «الي على الحبل كله». نستورد العلمانية فنمحورها إلى دكتاتورية، نستلف الليبرالية «فنطوفها» في طوائف و«ندينها» تحت أديان، حتى تفرغ من محتواها، وتمسي مسخاً تحت مطارق إعمال «عقولنا» فيها. لمَ تعادي العقلية العربية نفسها؟ لمَ نسير بانتظام صارم نحو هلاكنا ونهاية أمتنا؟ لمَ نبالغ في كل ردود أفعالنا وفي كل ممارساتنا وفي كل أحاديثنا وحواراتنا؟
قد يكون أحد أهم أسباب «عداء النفس» هذا، هو أننا نرزح تحت ضغوط محلية وإقليمية شديدة، فمن قمع للرأي والحريات، إلى فقر وجهل وأنيميا شديدة في العلم والتصنيع والكتابة والترجمة، إلى بيروقراطية تسحق كرامة أشد الناس صبراً، إلى أدلجة دينية خطيرة تجعل الإنسان العربي في قلق دائم، رازحاً تحت مشاعر قاسية من تأنيب الضمير، إلى أنظمة حكم مستوردة من العصور المظلمة، والقائمة تطول.. كل تلك الأسباب تجعلنا بحاجة مستمرة لأفيون للمشاعر، لمساحة للتنفيس، ومن أجل هذا الغرض النفسي المهم، يبدو لي أن أنظمتنا صنعت، مشكورة، فرق كرة قدم مخصصة لتنفيس المواطنين، مضحية في الوقت ذاته بمستقبل الرياضة في بلدانها، وبمستقبل أفراد الفريق وراحتهم واستقرار حياتهم التي تهدر في صراعات سياسية، وتختتم بإهمال وضحالة في التكريم. فبينما تتقدم صفوف «العالم الأول» حثيثاً للأمام، وبينما يرزح إقليمنا تحت ثقل مشكلات طائفية وايديولوجية وطبقية ومادية وعلمية وسياسية بالغة الخطورة، نبقى نحن، الشعب المغدور، «نهس هسيس» البالون المنفوخ، الذي يقل تورمه بالسماح لبعض من هوائه الفاسد بالهروب في كل مباراة «حماسية» بين شعوب «أبناء الوطن العربي الكبير». إنها مؤامرة لتلهينا وتشغلنا بخلافات جانبية تعمل على «ثقب» بالوناتنا حتى نبقى في نهاية اليوم كقطع مطاطية خاوية يسيل على فمها اللعاب اللزج.
مؤسف ما يحدث للرياضة الكويتية، ومؤسف، ونوعاً ما مثير للضحك، ما يحدث بين سفارتي الدولتين الشقيقتين، مصر والجزائر، على إثر مباريات «رياضية» قوامها حسن الخلق، وضبط النفس، واحترام الآخر. لكننا نبقى نحن... حيث يبدو أنه لم يبق لنا طريق لم ندمره، وممر لم نختلف عليه، وحوار لم نشوهه، وصولاً إلى ذاك الخاص بالرياضة، وها نحن نقتلها من «شدة الحب».. ألا حفظنا الله وإياكم من الحب العربي، والحماسة الإقليمية.

رحمة الطائر الأزرق

الرحمة العظيمة، كم هو عذب ذلك الصوت
الذي أنقذ معذبا مثلي
كنت في حين ضائعاً، والآن وجدت نفسي
كنت أعمى لكنني الآن أبصر
خلال المخاطر الكثيرة، العناء وكمائن الحياة
هي الرحمة التي أنقذتنا لحد الآن
وهي الرحمة التي ستبلغنا أوطاننا
صحبتني هذه الأنشودة الرائعة طوال رحلة عودتي من الولايات المتحدة الى الكويت، والتي كانت لتلبية الدعوة الكريمة لاتحاد الطلبة- فرع أميركا لحضور مؤتمرهم السنوي الذي أذهلني تنظيمه وأنشطته وفعالياته الرائعة لآخر درجة. وقبل أن تهب رياح الاتهامات لمحبتي لتلك الأغنية ذات الروحانية المسيحية، أؤكد أنني من عشاق الروحانيات الموسيقية بشتى «توجهاتها»، فحفظت «أهلاً رمضان» للعفاسي بلغاتها الثلاث وخصوصاً بالفرنسية الرقيقة، وغنيت «كوكو» لنزار القطري التي عادة ما أتوقف عن إنشادها قبل أن تأتي على ذكر جيش المهدي الذي لا أظن موضوعه مناسبا كثيراً لأغنية أطفال. «الرحمة العظيمة» على أنغام الموسيقى رققت نفسي التي كانت ضائعة ووجدتها على طريق عودتي للوطن الرحيم. لا أدري ما المصاب تحديداً، لكنني لم أعد أقوى على البعد كثيراً، وأصبحت مشاعري مرهفة زيادة عن اللزوم ودمعتي أسرع مما ينبغي في أيام البعد. أعتقد أن لهذه الحالة المحرجة نوعاً ما وغير المتسقة مع المنطق وتوازن المشاعر، عددا من الأسباب قد يكون من بينها التقدم في العمر، أو المشاهدة المستمرة للأفلام العربية والهندية، أو المتابعة المستفيضة للأداء النيابي لسعدون العتيبي.
وبما أنني لا آتي الثانية وأتجنب الثالثة بكل ما أوتيت من قوة، وليس لي أي رغبة في مناقشة الأولى، فإنني لا أعرف سبباً لحالة الحساسية النفسية المفرطة تلك. وقد زاد الطين بلة أن تصادف أن كان حجزي على خطوط غير الخطوط الجوية الكويتية، فكان لغير طائرتي الزرقاء أثر ثلجي مضاعف على قلبي. فما إن ولجت بوابة المغادرة في مطار الكويت، حتى اجتاحتني غربة طرقت رأسي بأنني لست على طائرتي الكويتية، فصغُر حجمي وانزويت في كرسيي على عكس تبجحي وانشكاحي عندما أكون على طائرة بلدي، حيث أشعر أنني أمتلك جزءاً من الطائرة، ولي الأحقية بأن أفرد طولي وأتمطط في كرسيي بكل ثقة. مع ذلك، مرّ الوقت سريعاً لتشوقي لرؤية طلبة أميركا وفعاليتهم وبصحبة الدكتور عبدالله الطريجي الذي تصادف وجوده على ذات الرحلة فملأها مساحات شاسعة خضراء بامتداد ملعب كرة القدم الذي يعشقه بشدة.
عند الوصول، استقبلني طلبتنا مرحبين بلهجة كويتية لم يفقدوها مع سنوات اغترابهم، فامتلأت نفسي سعادة، وغمرتني رائحة بخور وهيل خيالي، وأنا أدخل معهم الفندق الذي تتوسط مدخله حاملة إعلان عليها صورة مكبرة لشاب كويتي بالغترة.. أخيراً، أنا في موطني بعد تغرب على تلك الطائرة الباردة لساعات عدة. قضيت ثلاثة أيام، سآتي على ذكرها في مقال قادم، كانت من أجمل وأغنى أيام حياتي، وقفلت عائدة لأرض الوطن الذي، بالرغم من الحفاوة الكويتية التي تلقيتها في قلب لوس أنجيليس، صدَع قلبي بعده. صعدت الطائرة الباردة ذاتها وقد عاودتني غربتي وشعوري بالضآلة والانكماش. تذكرت أيام الدراسة والرحلات المكوكية بين أميركا والكويت، حيث كانت وسيلة مواصلاتنا الوحيدة هي الخطوط الجوية الكويتية، فتساءل قلبي أين المضيفون السمر الذين يستقبلوننا بـ «حياكم الله» الكويتية المحنكة؟ أين الأبراج الثلاثة الزرقاء تتهادى على البحر الأبيض لقاطع الطائرة الفاصل بين درجاتها المختلفة، أين رائحة «العيش» بالزعفران التي تهب عليّ أول صعودي طائرتي الكويتية؟ أين دعاء الركوب الذي أصبح جزءا من تقليد الطيران الكويتي؟ أين اللون الأزرق الخلاب على حوائط الطائرة وعلى زي مضيفيها المزركش؟
ترقرقت دموعي وامتلأ حلقي بغصة خنقتني، فأدرت الآي بود طالبة الرحمة العظيمة أن تبلغني وطني وتدفئ قلبي بروائحه وأهله وشوارعه وزحامه، وأنا ألعن الزمن الذي زعزعني من بعد تماسك.
الخلاصة من هذا المقال الهذياني هو أن انقذوا الكويتية، أنقذوا طائرنا الأزرق الدافئ، فهو يقطع غربتنا، ويقرب مسافاتنا، ويأتي لنا برائحة الكويت، وعبق لهجتها، ووسامة سمرتها، حيث نطلبها في بقاع الدنيا المختلفة. أنقذوا الكويتية، فالتحليق على غير متنها الأزرق غربة فادحة في فضاء مرعب، فقط زرقتها تدفئنا على ارتفاع ثلاثين ألف قدم. أيتها الرحمة العظيمة.. أنقذي الكويتية.
آخر شي:
محاولة الحكومة الالتفاف على الاستجوابات دليل إدانة، وصعود الحكومة المنصة بارقة براءة، سنصفق للحكومة صعودها أياً كانت نتائجه، فاعتلاء «لمسرح» مرهب ويستحق التصفيق بحد ذاته. الحكومة حكومتنا، نتمنى تبرئة ساحتها، ونتمنى، كذلك انكشاف أخطائها ومحاسبتها، والتبرئة والمحاسبة لن يتأتيا الا بالصعود، فمتى تصعدون ونصعد؟؟

انكسر العكّاز والهمّ ذوَّبني

تحضرني مقولة جبران خليل جبران إن «من الحكمة ألا يكسر الكسيح عكازاته على رأس عدوه»، وأنا أطالع المشهد السياسي المحلي العاصف الذي يكاد يطيرنا جميعاً في هواء زوابعه العنيفة. وعلى الرغم من أن إحدى أكبر الزوابع قد هدأت ووضعت «أوزارها»، غير أننا لانزال نترقب بخوف أخرى جديدة تتكون هناك في أعالي البحار، حيث لا تصل أبصارنا، فلا نكاد نراها إلا عندما تقترب أكثر مما يجب، وترتفع أكثر مما يستحب، وتصبح خارج نطاق السيطرة، عندها، نجد أنفسنا، بلا حول ولا قوة، نطير مع عواصفها، وندور في مركزها، تتقاذفنا مراوحها الهوائية العظيمة المرعبة ونحن نتبعثر أشلاء ونصرخ صراخاً لا يجد ما يرد صداه.
ولا أدري تحديداً مَن مشكلته أكبر، نحن الذين نجلس جاحظين تجاه أعالي البحار نصلي أن يقينا الرب شر الزوابع ويبعدها عنا، أم هم سكان أعالي البحار، وهم ينفخون في العاصفة ويلوحون بالعكاكيز نازلين بها على رؤوس بعضهم بعضا غير مدركين أنهم إنما يستغرقون في تكسيح أنفسهم وهم يتناطحون بعكاكيزهم كاسرين خشبها على الرؤوس والأكتاف؟
يبدو مبدأ «عليّ وعلى أعدائي» الذي يهيمن على المشهد السياسي الحالي أبعد ما يكون عن الممارسة السياسية الحقة، فالسياسة، من مسماها، تتحقق في أن تسايس غيرك، لا أن تتناطح معه، أن تتفاوض وتختار معاركك، أن تناور وتحاور وتداور. ليس هناك فضيلة تامة في السياسة، لا وجود للخير والشر المطلقين في رحابها المعتمة، لا تتوافر اختيارات أخلاقية شفافة في فهرسها، ولكن هناك اختيارات أنظف من غيرها، لا ينتظم العدل في أروقتها ولكن هناك أوضاعا تقلل الظلم أو تعممه فيصبح عدلاً. تلك هي السياسة: فن المداهنة، معادلة حسابية مخادعة، مثلث مجموع زواياه لا يساوي 180 درجة، أعقد أيديولوجية إنسانية وأكثرها بدائية في التاريخ الإنساني.
لذا، ندعو نوابنا الأفاضل، بعد ماراثون الاستجوابات الأربعة، للتخلي عن أسلوب التناطح، ولاختيار صراعاتهم، وترك المهم من أجل الأهم، ويبدو لي حالياً أن الأهم هي أمور الصحة والتعليم والبدون وذوي الاحتياجات الخاصة وحقوق المرأة الكويتية التي من شأنها جميعاً أن تكفل درجة من الاستقرار الاجتماعي والسياسي جفت جلودنا تعطشاً إليه.
كما وندعو حكومتنا لبذل مجهود أقل في استرضاء النواب، ومجهود أكبر في استرضاء الشعب، فما إن نشعر نحن أن حكومتنا تعمل من أجلنا، وتعاملنا كمواطنين لا كرعية، وتقف صامدة شاهقة في وجه تهديدات المتسلقين والمجعجعين، فلا تشتري رضا، ولا تبيع خدمة، حتى نصفّ معها جميعاً لنواجه حتى اختياراتنا التي قد لا نكون أحسنّا نظمها.
نحن هنا أيها السيدات والسادة، على الأرض الصلبة، قد لا تروننا من مكانكم خلف أعالي البحار، أو قد نبدو كالنمل الصغير المتجمع بلا هدف، منقطاً على الأرض من شباك طائرتكم المحلقة بارتفاعها، لكن، لا تستهينوا بما لا يمكنكم رؤيته، ولا تستخفوا بالنمل عندما يتجمع ويتكوم سواده غاضباًَ بإصرار، ففي النهاية... الموضوع هو نحن، مصالحنا وحقوقنا وحيواتنا الغالية هي أساس عملكم وغاية وجودكم في مقاعدكم الحكومية والنيابية، فليكن نصب أعينكم.. نحن، فقد مللنا الزوابع التي تأتينا من حيث لا نعلم، قلب معدتنا الدوران في عواصفها، وأغثانا التأرجح في هوائها الشقي الساخن.
نحِنّ اليوم لأرض صلبة، حيث نستطيع أن نبني ونعمر ونزرع، وحيث تكون لدينا الفرصة لمراقبة بذورنا الصغيرة، التي نُرقدها في أرضنا الدافئة بمحبة، تشق طريقها للأعلى، يخضرّ عودها، وتشد أوراقها لضوء الشمس دونما خوف من زوابع أو أعاصير.
اكتفينا والله من دفاعكم النيابي المستميت عن حقوقنا المالية، خنقتمونا واعتصرتم أضلعنا من شدة الحب حفظكم الله، كما واكتفينا من مناوراتكم الحكومية ومهادناتكم واسترضاءاتكم «الزبداوية»، فلا نكاد نقف حتى نتزحلق على أرضيتكم الرطبة بزبدتها، كسرتم ظهورنا بسلاستكم وطراوتكم. لا تحبونا كثيراً عافاكم الله، فقط أدوا واجباتكم و«اشتغلوا» سياسة: اختاروا المهم وقدموا الأهم، وتذكرو أن مصلحتنا تتقدم على الحق أحياناً، فأنتم صنعتكم السياسة. وكفوا أيها السادة عن تكسير عكاكيزكم على رؤوس بعضكم البعض. فبخلاف أنكم أصبحتم غير قادرين على فرد ظهوركم وقوفاً، أصبح منظركم مضحكاً وأنت «تتقلقلون» بين وقوف وقعود. يحتاج بعضكم إلى بعض يا سادة، تأبطوا عكاكيزكم، فمكانها تحت الإبط وليس فوق الرؤوس... وفقنا الله واياكم لشيء من الهدوء والسكينة وحسن «السير» والسلوك.

بردانة أنا

منذ «حادثة» زيارة الدكتور نصر حامد أبوزيد للكويت وأنا أفكر كثيراً في تلك الضغوط الرهيبة التي يعانيها «المنبوذون»، والتي لم أشعر بوهجها من قبل إلا عندما اقتربت تلك الضغوط، متعدية مساحة الأمان التي تحوطني. منذ زمن، منذ بدأت أكتب وأتحدث علانية عن آرائي، بدأت دائرة مساحة الأمان من حولي بالتقلص، لم يعد مسموحاً لي أن أتمتع بكثير من الأمان والخصوصية النفسيين، فلإعلان الرأي و«فرضه» على الجمهور ثمن ندفعه من دائرة المساحة الآمنة. كلما أعلنّا رأياً، صغُرت مساحة الأمان والخصوصية من حولنا، والتي «يحتلها» الجمهور القارئ أو المستمع بآرائه أو انتقاداته وأحياناً تجريحه، وهذا والله ثمن مستحق لعرض وأحياناً «فرض» آرائنا مكتوبة ومسموعة من دون استئذان. لكن تبقى الضغوط تتحلق دوائر سوداء في القلب وحول العيون، ويبقى القلق على المساحة الآمنة مسيطراً حيث يجد الكاتب أن ثمن المحافظة على دائرة أمانه لا بد أن يُستقطع من الكلمة التي يكتبها، وتلك -والله- عزيزة لا يمكن الاختيار بينها وبين الأمان وراحة البال، فحرية الكلمة تتفوق دوماً وتنتصر في هذا الصراع المستمر. أفكر كثيراً، منذ «حادثة الزيارة» في هذا الثمن الذي يدفعه الدكتور أبوزيد طواعية مقابل حرية كلمته، أتأسى تحديداً للتقلص الشديد لدائرة أمانه التي أصبحت شبه منعدمة، وهو يدفع من مساحتها غرامة كلمته التي تحلّق على ارتفاعات غير مسبوقة، وازداد قلقي الأناني عندما وصلت «طرطشة» الحدث لدائرتي ساعية إلى تقليصها. فما إن أتممنا الندوة المساندة للدكتور «أبوزيد» في الجمعية الثقافية النسائية، حتى انهالت الرسائل والتعليقات مؤنّبة، موبخة وأحياناً مجرّحة لموقفي وزملائي المساند حتى كادت دائرة أماني تطبق على أنفاسي، من شدة ما تقلصت هذه الفترة. تعودت أنا منذ زمن على تمدد وانكماش دائرة الأمان هذه حسب الظروف و«طولة اللسان»، ولم يعد الأمر مؤلماً لكنه -بلا شك- لا يخلو من لسعة، فعندما تكون هناك أغلبية ساخطة على رأيك، تشعر بانعزال قوي عن المجتمع وبوحدة غريبة حتى وأنت بين ألف شخص، وببرودة تخترق عظمك حتى وأنت مغطى بألف لحاف. أفكر في الدكتور «أبوزيد» وأحدّث نفسي أنه إذا كانت الطرطشة الخفيفة جداً تلك قد عزلتني، ولو لوهلة وغرّبتني عن ناسي، فما يفعل تسونامي الغضب في الدكتور؟ كيف تراه يدفع هذا الثمن كل يوم؟ وما هو الوازع الذي يسهل عليه أن يمد يده الى دائرة أمانه كل يوم، فيستقطع منها ثمن أفكاره الباهظة باختلافها؟ لست الآن بصدد الدفاع عن أفكار الدكتور، تبقى أفكاره «أفكاراً» ستلاقي القبول والرفض، وتتلقى الاستحسان والاستنكار ككل الأفكار الأخرى في الدنيا، البشرية منها واللاهوتية كذلك، حيث لم يجتمع البشر جميعاً على فكرة موحدة منذ بدأ الخليقة سوى حول فكرة...الموت. وعليه، فصحة أو بطلان رأي الدكتور ليسا مقياساً يحدد حقه في التعبير، وذلك ببساطه لأن الصحة والبطلان ليسا قاطعين، ولن يكونا في يوم من الأيام حول أي من شؤون الدين والدنيا عند البشر. وعليه أنا لا أدافع عن الدكتور لأنني أتفق معه في الرأي، وإن كنت أفعل حول كثير من آرائه، لكنني أدافع عنه وحقه في التعبير لسبب أنانيّ بحت، فأنا أريد أن أضمن حقي في التعبير كذلك، ببساطة شديدة أنا «أشيمه» بقبول رأيه حتى ينحرج ويفسح المجال لرأيي في المستقبل، وهذه جملة مجازية بكل معنى الكلمة، فلا أنا سأكتب شيئاً سيلفت نظر الدكتور بحثياً، ولا هو سيحتاج تشييماً أو سيسعى يوماً للحجر على رأيي. ولكن تلك هي الطريقة الوحيدة الممكنة لتعايش البشر من دون صراع أو عنف، لا بد من إفساح مجال كريم جداً لحرية الرأي، وتلك فكرة أوسع وأخطر وأهم من مجرد كونها فكرة حضارية للمجتمعات المتقدمة، هي فكرة «لحفظ النوع» ولاستمرارنا كبشر، وإلا سنتذابح الى أن نقضي على بعضنا، كما اقتربنا من أن نفعل على مدى تواريخ مظلمة من عصورنا البشرية. وأنوه هنا بأن الدكتور أبوزيد كتب مقالاً بعنوان «العقلانية العوراء والليبرالية العرجاء» في «المصري اليوم» بتاريخ 30/7/2006، جاء صادماً لي وجارحاً لمشاعري إن كان للمشاعر مكان في تكوين وعرض الرأي. فقد وقف الدكتور موقفاً مؤيداً لحزب الله، وناقداً بل ناقماً على الليبراليين الذين انتقدوا الحزب وأمينه العام، بدرجة أوجعت قلبي وعقلي، خصوصاً وهو يختم مقاله قائلاً «ألا ساءت عقلانياتكم ،وسحقاً لليبراليتكم، والنصر للمقاومة»، إلا أنني احتفظت بوجعي لنفسي واحترمت الرأي وأنا «أصرّ» على أسناني صريراً مرتفعاً. فقانون الطبيعة يقول إننا سنختلف حتماً مع من نتوقع الاتفاق الدائم معهم، وسنتفق يوماً مع من نعتقد الاختلاف المحتدم معهم، لذا، لن يفصل بيننا ويحدد طبيعة راقية وإنسانية لعلاقاتنا سوى الإفساح لأكبر قدر من حرية التعبير عن الرأي لا يحده أو يصده سوى التعرض لأمن الإنسان الجسدي، أو لأمان بلده القومي. ومع ذلك، فكتابات سيد قطب التحريضية التي أعتقدها تهديدا حقيقيا لأمن «الآخر» المختلف عن تفكير سيد قطب، لاتزال تجد مكانها عندي وعند كل مؤمن حقيقي بحرية الرأي، وهذا الإفساح ليس «كرم أخلاق» منا ولكنه رغبة حقيقية في التعايش وحفظ النوع، كما أوردت سابقاً.
ومن هنا، أنوه كذلك إلى أن فكرة بشرية القرآن التي تقوّلوا بها على الدكتور ليست صحيحة أبداً، وإنما، كعادتنا، تنتقل سمعياً بيننا من دون أن يكلف أحد نفسه فتح كتاب والتأكد من النص المكتوب، فالدكتور تحدث عن كون القرآن، النص الإلهي الذي لا يمكن إنكاره أبداً، كما يؤكد هو، يتحول بعد فترة من التداول البشري تفسيراً وتأويلاً، إلى نص يحمل في طياته معاني بشرية كذلك، فمثلاً، الآية القرآنية التي تتحدث عما في الأرحام تعرضت لتفاسير مختلفة على مر العصور، حتى أصبح فحواها بشرياً يختلف باختلاف الأزمنة، وإن كان نص الجملة نفسه إلهيا. طبعاً، قد يقرأ آخر هذه الدراسة النقدية ويستقبلها على أنها إشارة الى بشرية النص القرآني، وهذا مربط الفرس، نحن نختلف في فهمنا للآراء وفي توافقنا معها وفي قراءة نوايا كتّابها، إن صح لنا إجراء مثل هذه القراءة، ولذا، يجب ألا تكون هناك «لجنة تحكيم» تقضي بصحة هذا الرأي، أو بوجوب قتل صاحب ذاك الرأي. لا يمكن -لسبب إنساني خالص في بساطته- تشكيل مثل هذه اللجنة، لأننا سنختلف رغم الأنوف المقدسة لأعضاء اللجنة، وسنستحسن ونستاء ونسعى للمعلومة التي تقصيها تلك اللجنة «الإلهية»، فنتضارب ونتناحر الى أن نفنى أو تتحرر الكلمة. من هنا، أعيد قولي، إن «نوعية» رأي الدكتور ليست عاملاً في تحديد حريته في إبداء هذا الرأي، فللرأي ذاته قداسة لا يمكن تخطيها إلا اذا هددت الحياة الفعلية لإنسان آخر أو هددت السلامة القومية السياسية لبلد ما، باتخاذها منحى إرهابيا، مع الحرص الشديد على تعريف الإرهاب وتضييق حدوده لمصلحة أقصى درجات حرية الرأي. إذن فليكن رأي الدكتور ما يكون، أنجع طرق قطع الطريق على آرائه هو تفنيدها ومحاورتها واستنزاف قدرتها على الإقناع، وليس بعزلها وسجنها حتى ليسعى كل ذي علم أو فضول للاطلاع عليها ونشرها سراً، فتُلبَس ثوب كفر أو قداسة قد لا تستحق تلك الآراء أياً منهما. كنت أتمنى رؤية الدكتور وجهاً لوجه لمحاورته في موضوع حزب الله، ليتسنى لي أن «أنفّس غيظي» تفنيداً ونقاشاً وليس إهانة وتنكيلاً بزائر يحضر هو بنفسه الى «داري». حُرمنا جميعاً من هذه الفرصة، فرصة محاورة الدكتور وتفنيد آرائه والرد عليها، استحساناً أو انتقاداً، حتى يزول عنها «وهج» السرية الذي يجعلها تبدو وكأنها حقائق يريد «أولو الأمر» إخفاءها عنا لكونها مجرد آراء تحتمل الخطأ والصواب. كنت أتمنى هذه الفرصة، لكن ...لعن الله الجُبن والجهل اللذين أعادا الدكتور سالماً بآرائه، وأبقيانا في ظلام النميمة و«الإشاعات الفكرية» التي لا نكلف أنفسنا حتى التأكد من صحتها، فضلاً عن مناقشة أصحابها فيها، ألا لعن الله الجُبن والجهل.

ماما.. أريد أن أدرس في أميركا

«من علّم الشمس أين تسطع في الصباح؟
ومن أخبر المحيط ألا يتقدم أكثر مما يفعل؟
ومن بيّن للقمر أين يختبئ إلى أن يحين المساء؟
كلمات وحدها تستطيع أن تحتضن شهابا لامعا.
أنا أعلم أن مخلّصي يعيش
أنا أعلم أن مخلّصي يعيش
كل الأحياء تشهد
هذه الحياة بداخلي تصرخ
أنا أعلم أن مخلصي يعيش»
أيتها الصغيرة، أو تعلمين أنك مخلّصتي، أتعلمين أنك تمسحين خطاياي وتستحضرين خلاصي؟ أنت يا صاحبة الضفائر، ضفائر سوداء بعمق الليل، طويلة بطول قوس قزح، أنت يا جميلة.. أتعلمين أين كان أول يوم في حياتك؟ على صدري، تتدفئين، تأخذين حرارة جسمي وتتركينني أكثر حرارة، هذا الرجل ذو الرداء الأبيض أخبرني أن حرارتك منخفضة، أنت ترتجفين، أمرنا أن نتخلص من أقمشتنا وأن نلتصق، أخذتك إلى قلبي وأخذت أنت قلبي، تدفأت وحييت وعشت تعصرينني كل يوم، تنكمش أضلعي بعد أن فرغ قفصي الصدري من قلبي، وأنت تكبرين، كل يوم جميل، كل يوم صعب، كل يوم طويل، كل يوم سريع، أنت تكبرين، تطهّرني حياتك، أصفح عن نفسي كلما نظرت في وجهك، يسامحني خالقي ويطهرني من ذنوبي عندما تبتسمين.. عندما تبكين، أنت صلاتي، أنت اعترافي، أنت الدنيا والآخرة، فأين تذهبين؟ لماذا تتركين سنوات الأمان؟ من سيفهم خطو قدميك؟ من سيعشق أخطاءك بقدر نجاحاتك؟ إلام تسعين وأنا أعرض عليك حياتي ومماتي، جنتي لك إن كان لي جنة، ونارك أستعر أنا فيها لو قدرها لك الخالق أبداً. ابقي أرجوك، سنة أخرى أو سنتين أو ثلاثا، احتاجيني أرجوك، مرة واحدة أخيرة أو مرتين أو ثلاثا، اطلبي مني أن ألعب معك، تعلقي بثوبي حين خروجي، احتضنيني، مرّغي أنفك في فستاني، مرة أخيرة اطلبي مساعدة في الواجب، آخر مرة.. اطلبي مني أن أساعدك في تزرير ثوبك.. آخر مرة. بحق تلك الليالي والأيام، بحق الضحكات والدموع، بحق قلبي الذي استكان بجانب قلبك، احتاجيني، اطلبي سندويشة أو كأس حليب ساخن، ابكي إلحاحاً من أجل لعبة، حلفتك يا مخلصتي.. اطلبي واحتاجي، انتظرت عمري، سنوات شبابي كي أتعدى طلباتك واحتياجاتك، وها أنا أكتشف أنني لا أعرف كيف أعيش دونهما. يداك تشهد وشكل عينيك وسواد شعرك، كلها تشهد أن مخلصتي تعيش، وستعيش بعدي طويلاً، ستحررني من آثامي وتنقي قلبي، تطهرني بالألم، بالفراق، وبحياة تنفصل، وبحب حارق يتصل.
كيف أعتذر من أمي لأنني كبرت، لأنني انفصلت، كم أنا قاسية.. خائنة، ولكن الجزاء من جنس العمل، واليوم دوري. أيا مخلصتي، ابقي يوماً أخيراً.. طفلتي.

جلي

لا خطر علينا سوى منا، لا يتربّص بنا سوى أنفسنا. ليس هناك خطة منظمة لهدم وحدتنا، هناك «نحن»، ونحن من سيهدمنا ويفتّ في عضد تركيبتنا الاجتماعية. نحن، بطبيعتنا البشرية، مختلفون، وعدم قبولنا بالاختلاف هذا، ومحاولاتنا المستمرة لتوحيد لوننا وتنظيم صفنا في طابور طويل، وطي عقلنا في منظومة فكرية واحدة، هي ما سيعدم وجودنا ككتلة شعبية متماسكة. التماسك لا يعني التشابه، فالأقطاب المتشابهة تتنافر، التماسك يعني تمازج المختلف وتجاذبه بسبب اختلافاته، واحترامه بل وتقديسه لهذه الاختلافات.
نحن خطر على أنفسنا في محاولاتنا المستمرة «لتطبيع» الفكر واستنساخ الفعل وحتى «كربنة» الشكل، في سعينا الحثيث لأن نفرض أفكارنا على بعضنا البعض ولأن نقصي أي «دخيل» يحمل فكرة مختلفة. نخاف نحن دوماً من المختلف، فهذا المختلف، جيد أو سيئ، طيب أو شرير، يبقى «مختلفاً»، أي خارج الصف، ونحن نحب الصف مرتباً كطابور النمل، لا نحيد عنه، وولاة الأمر يحبون الانتظام في الصف، فهو يساعدهم على رؤية الجميع وتنظيم تحركهم.
السيد محمد الجويهل ليس خطراً ولا لعنة، ولا يرقى حتى لأن يكون مشكلة، ولا أعتقد حقيقة أنه هو نفسه متصور معنى ما يقول أو متفهم لمترتباته، فمن زاوية هو رجل مضحك، ومن زاوية أخرى هو رجل يثير الرثاء. الخطر يكمن في ردة فعلنا، واللعنة ساكنة في خوفنا، خوفنا من ضعف نعتقده وتفكك نتوقعه في نسيجنا الاجتماعي.
ولو كان ذلك حقيقيا، لو كان نسيجنا بهذه الرقة والضعف، فنحن في مصيبة لا يرقى محمد الجويهل الى مستوى تسبيبها، فهذه مصيبة تحتاج لتكاتف شعب كامل في التخاذل والضعف والخوف لنصبها فوق الرؤوس. سيذهب الجويهل وسيأتي غيره، ولو تكممت كل الأفواه الكويتية، ستنطلق أفواه خارجية، فما العمل؟ أكلما تحدث إنسان بشيء من قائمة ممنوعاتنا طاردناه ونصبنا له المحرقة ثم جلسنا أسفلها ننعى وحدتنا ونولول فوق جثتها؟ مصيبة، تلك والله مصيبة، فالضعفاء والمتخاذلون والأبواق المشتراة والجهلاء يملؤون الدنيا، أكلهم يتهددون «اللحمة الكويتية»؟ كلهم خطر محدق بوطنيتنا؟ يا للهول؟ ما العمل؟ لا بد أن نحرق كل البشر وننسف كل الشجر ونحز الرقاب ونجز الألسنة، حتى لا يتحدث إنسان بما يمسّنا، بل ينتظمون جميعاً في مقولة إننا خير أمة خليجية أخرجت للناس، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ولا نزدوج في الجنسية ولا نختلف في العرقية ولا نتنابز في الطائفية، حلوين كلنا ونحب بعضنا ومن يقول بغير ذلك، حقاً قال أم باطلا، عدلاً قال أم جهلاً، فسيكون مكانه جهنم أعدت للناقدين. لقد استمعت لشيء مما قال الجويهل، والحق يقال لم أنتبه كثيراً لما جاء في حديثه، فالرجل كان «ما بيجمعش» يحكي وينفي ويعود يحكي، ما فهمت منه شيئاً، ولكن جذبتني حركاته وأداؤه المسرحي المضحك وهو يمتشق سيف البطولة، الذي سلمه إياه البعض عن طيب خاطر بردة فعلهم المبالغ بها، ويعلو صهوة حصانه، متجهاً بلا شك، إلى صناديق الانتخابات التي سيعلو شأنه فيها بسبب ضجتنا وزعلتنا و«زعرنتنا» في التعامل مع حديثه.
لو أن الجويهل خطر علينا، فأنا أول من يشهد أننا في مصيبة، وأن وحدتنا الوطنية وهم، وتماسكنا ليس إلا تماسك طبق من «الجلي» في عز الظهيرة، لو أن الجويهل خطر علينا أو أننا نعتقده كذلك، فنحن في مشكلة اجتماعية ثقافية حقيقية تشكل خطرا كبيرا ليس على تلاحمنا الشعبي فحسب، ولكن في الواقع على استمراريتنا كبشر. الجويهل آخر همومنا وأبسط مشاكلنا، مشكلتنا الحقيقية هي نحن، فلننظر.. هل وحدتنا هشة لهذه الدرجة، أم تفكيرنا مستريب بهذا الشكل المرضي، أم هم «جماعة» يؤلبوننا على كل «مختلف» فيوهموننا بهشاشة وحدتنا لنعود فننتظم في الصف ونطيع الأوامر؟ الجويهل على طريق القانون، ستتقطع قدماه وهو يمشي في هذا الطريق الوعر على الحفاة، والحديث عن أن خلفه سندا وقوة حديث لا طائل منه وليس له وزن في القانون، فلو كان هناك دليل، فخير على خير، وليذهب الجويهل وسنده في داهية، وإن لم يكن، فليس بالإمكان محاسبة النوايا أو اعتماد الأقاويل. إنه جمال المنطق القانوني الذي يُغلّب الانضباط في الأحكام والالتزام بالنصوص على القيل والقال مهما بلغت درجة ثبوتهما، فتحرير ألف مذنب ولا ظلم إنسان بريء واحد، ذاك هو المنطق القانوني، وذاك هو ما يجب اعتماده في قضية الجويهل.
إنه نحن، نحن الخطر، فلنحمِ أنفسنا من خوفنا، ولنختلف، فالاختلاف صحة، ولنتنوع، فالتنوع فيه استمرار وحياة، والتنوع يعني الجيد والرديء ومن تزِد درجة رداءته فالقانون له بالمرصاد، وتلك يجب أن تكون نهاية قصة الجميلة «الوحدة الوطنية» والوحش «الجويهل».
في برنامج «نظرة شرعية» الذي تم بثه يوم الجمعة الماضي الساعة الواحدة ظهراً باستضافة الدكتور محمد العوضي في حلقة عنوانها «التنوير في التزوير» حول موضوع زيارة د. نصر حامد أبو زيد للكويت، وبخلاف قلة اللياقة في العنوان، ووصف الدكتور العوضي للدكتور أبوزيد «بالغبي» وغيرها من الأوصاف والألفاظ التي أصبحت ملازمة لخطاب الدكتور العوضي منذ فترة، نوّه المذيع بأنه تم الاتصال بي ولكنني رفضت التعليق بالرغم من دعوتنا، كما قال، لمواجهة الفكر بالفكر، في تلميح واضح لجبن مني وإعراض عن المواجهة.
ويبدو أن المذيع سها، كما تسهو قناته كثيراً، فلم يذكر السبب الحقيقي الذي أكدته أنا وأؤكده دوماً عندما تطلبني القناة لأي ظهور إعلامي معها: أنا أختلف مع قناة الوطن فكرياً وأخلاقياً ولذا أرفض الظهور فيها. وفي الواقع ليس لدي خوف من المواجهة لسبب بسيط لا علاقة له بادعاء الشجاعة، أنا لا أدافع عن فكر الدكتور أبو زيد، ففيه ما يروقني وفيه ما أختلف حوله بشدة، أنا أدافع عن حريته في إبداء هذا الرأي مهما اختلف، بل لأنه تحديداً يختلف مما يجعل من الاستماع له وتفنيده ضرورة ملحة. لذا، ليس هناك ما أخشاه من المواجهة، لأنني
لا أنويها مواجهة نقدية لبحوث الدكتور، بل هي مواجهة مبدئية حول حرية الرأي.
فالرسالة إذاً لصاحب برنامج «نظرة شرعية» أن من متطلبات «القول الشرعي» أن تصدق في توصيل الرسالة يا أخي، أو تكتمها بمجملها، لا أن توصلها نص نص خدمة لرأيك، الحقيقة يجب أن تكون كلها عارية، لا كاسية عارية، الله يسلمك.

خلاص.. سأحب الألماس

لدي حساسية أخلاقية تجاة ثلاثة: الألماس، والحقائب ذات العلامات التجارية الرفيعة (الماركة)، والنواب الإسلاميين، وهؤلاء هم تحديداً من يرمي للتشريع المدني من منطلق ديني. وللحساسيتين الأوليين فوائد جمة لأفراد الطبقة البرجوازية، غير أن الحساسية الثالثة تجبّ فوائد كل الحساسيات الأخرى مجتمعة، فتترك البرجوازي لا من فلوس ولا من سند. كان ذلك حالي إلى أن دخلت صديقتي الجميلة الكويتية جداً «بنت المشعان» إلى حياتي، فقلبت الموازين واستحضرت المساءلات، وهي تعارك عقليتي البرجوازية الليبرالية، بعقلية كويتية حرة بحتة، تنعكس في ضحكتها الصافية، وتذمرها «الأصيل»، وهي تتنهد من مناكفتي هاتفة: «لحوووو». لم يجذبني الألماس يوماً إلا بعدما رأيته رقيقاً منمنماً على يديها وفي أذنيها، وما صفحت عنه إلا بعد حكاويها عن معرفتها بمصدره قبل شرائه.
ففكرتي العامة عن الألماس أنه حجارة مغمسة بالدم، تمر على أجساد كثيرة قبل أن تصلنا أقراطاً وخواتم وعقوداً على الأطراف المخملية. إلا أن «بنت المشعان» نجحت في تغيير فكرتي وإجباري على مساءلة رأيي المتطرف الأحادي الزاوية حول الموضوع.
أما الحقائب، فقد اختصرت صديقتي الطريق، فلم تناكف ولم تحاور، بل أصبحت «صوغتها» من أسفارها، حقيبة رقيقة لماركة ثمينة، لا أملك ردها، ولا مقاومة جمالها، واتقان صنعها، فأتجمل بها حيناً قصيراً، إلى أن تنتقل بقدرة قادر من دولابي إلى دولاب ابنتي التي تهتف، وهي تخطف الحقيبة، بمحبتها: «لخالتي بنت المشعان» التي خلصتها من فظاظة حساسيات والدتها التي لا تتناسب و«كول» الأوقات التي نعيشها.
إلا أن أثر صديقتي يتعمق في «البند الثالث»، والذي من خلاله تظهر لي شخصية غريبة، هي التي لا تتناسب في الواقع وفظاظة وطائفية الأوقات التي نعيشها. أتذكر أوائل حواراتنا بعد انتخابات 2006 حيث كنا في بداية صداقتنا إذ سألتني «بنت المشعان» إن كنت أعرف، أو أسمع بفلان الفلاني المشارك في الانتخابات، فأخبرتها مبتسمة أن نعم أعرفه، فهو قريب لي في الواقع. أخبرتني ساعتها أنها أعطته هي وعائلتها أصواتهم. سألتها مستغربة: لم؟ أجابتني «مستنكرة» أنها تابعت نشاطاته وحضرت عددا من ندواته فأعجبها فكره، وقررت أن تعطيه صوتها، هكذا...
هذا كل ما في الأمر. بنت المشعان سنية، والمرشح ذاك شيعي، وهي أعطته صوتها، لأنها حضرت محاضراته، واقتنعت به، هكذا فقط. لم أعرف بعدها ما طغى في قلبي، محبتي لها أم ابتئاسي من استغرابي توجهاً يجب أن يكون هو الطبيعي والسائد. تتصرف هذه السيدة بطبيعية تغيظني أحياناً، فأناكفها وأناوشها لأتلقى منها ضحكة كويتية صافية، وهي تثبت شالها على كتفيها، والذي تفوح منه رائحة بخور عبقة، مسلّمة أمرها لله في صديقتها التي تبحث عن المشاكل حتى فيما يسرها.
مؤخراً اكتشفت أن صديقتي معجبة بنائب آخر يطرح نفسه كإسلامي شيعي بقوة، وإعجابها به يأتي من مواقف تراها وطنية في أدائه النيابي، وفي أحاديثه الإعلامية. عندما باحت لي برأيها في هذا النائب، ثرت عليها هاتفة «أنت طائفية»، ترقرقت ضحكتها أصفى من ليلة صيف مذكرة «يا ابتهال، أنا سنية، وهو نائب شيعي، يعني شلون طائفية؟».. «بلى»... هتفت أنا «تعانين من طائفية معكوسة، حتى مو عارفة تصيرين طائفية صح». وللمرة الأولى ارتفعت ضحكتها أكثر بقليل عن درجة هدوئها الاعتيادي، ودمعت عينيها، وهي تكرر اتهامي «طائفية معكوسة؟؟».. ومنذ ذلك الحين، نتضاحك أنا وهي حول هذا الموضوع، بينما أنا أخفي غيظي من طهارة قلبها، ونبل مشاعرها الكويتية البحتة، من مبادئها التي لا تعلنها إلا بأفعالها، لا تتشدق بها كلمات، وانما تحبرها على الورق يوم التصويت، وهي لا ترى إلا كويتيا مخلصا، وآخر غير مخلص، حيث يتكون مقياسها من هاتين القيمتين فقط لا غير. أخبرها أنني لا أؤمِن للنائب ذي الطرح الديني، فما أن يتداخل التشريع بالسياسة حتى تدب الفرقة وتختلط الأمور، وتُعزل الأقليات وينشط القمع، فيهتز المجتمع عندها بالثورات والقلاقل تحديداً، بسبب سيادة معتقد على آخر. توافق «بنت المشعان» على رأيي، ولكن، من وجهة نظرها، «كويتية» النائب تصفح له وتوعز لحسن النية تجاه أدائه التشريعي. إذا كان يحب الكويت، لن يقدم على مصلحتها شيئا. هكذا، بكل بساطة وسلاسة و...حب. لم لا أستطيع أن أكون مثلها، أطيب نفساً، وأصفى نية، بأخلاقيات غريزية نقية تفترض الخير في الجميع؟
قد أحاول في هذي السنة الجديدة، وكل عام والجميع بخير.

دونما عنوان

يقول الشاعر محمود درويش:
«ما قيمة الإنسان
بلا وطن
بلا علم
ودونما عنوان
ما قيمة الإنسان».
قد لا يكون هناك موضوع أهم وأكثر إلحاحاً على الساحة المحلية حالياً من موضوع «البدون»، الذي لا «تلحّ» فيه مطالب إنسانية أساسية فقط، ولكن ضرورات أمنية على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي كذلك. «البدون» ليست مشكلة كويتية خاصة، فمحاولة البعض إيجاد منفذ للكويت للتنصل من واجباتها الإنسانية تجاه هذه الفئة ستنعكس بكل تأكيد على الساحة الإقليمية والعالمية، فهؤلاء البشر لن يتبخروا في الهواء، سيتفرقون في الأرض لمحاولة التعايش في أماكن أخرى تكون أكثر رأفة بإنسانيتهم واحتراماً لوجودهم البشري، وفي تفرقهم سيحملون معهم ذكريات مؤلمة وتجارب قاسية، وفقر تعليمي، وصحي، ويمكن كذلك أخلاقي، اختيرت كلها لهم قسراً، ولم يختاروها لأنفسهم أبداً.
ولا بد من أن أعترف هنا أن مكان «الحقيقة» في الغالب يكون «وسطياً»، مع التحفظ الشديد على وجود «حقيقة»، أو على توافر تعريف واضح لها أساساً. حقيقة وضع البدون واستحقاقاتهم، تحكمها منطلقات بحت إنسانية بالنسبة إلي، لا تدخل فيها الحسبة السياسية. وقد تكون تلك سذاجة حقوقية يقابلها لؤم سياسي يرعى المصالح من دون وزن «للإنسانيات» في تلك الحسبة، وقد تكون الحقيقة هي في مكان وسط بين السذاجة الحقوقية واللؤم أو التمصلح السياسيين، وقد يكون وجود كلا الطرفين؛ الحقوقيين السذج والسياسيين اللئام، ضروري لإبراز وجهتي النظر المتناظرتين، وبالتالي لتحييد الرأي الأخير، وتقويم الوضع وتعيير المعادلة الإنسانية السياسية.
من هذا الاعتراف أنطلق بحرية «حقوقية إنسانية» لتأكيد كويتية معظم البدون، مهما كانت أصولهم، ومن حيثما حلوا.
هناك أقلية مخادعة بلا أدنى شك، والفئات المخادعة هي جزء لا يتجزأ من تركيبة أي مؤسسة إنسانية على أرض الخليقة، ولكن الغالبية العظمى من البدون لم يعرفوا أرضاً، ولا وطناً، إلا الكويت. لم يتعلموا إلا في مدارسها، ولم يشربوا إلا ماءها، ولم يتبضعوا إلا في أسواقها، ولم يتنفسوا إلا هواءها، فإذا لم تكن تلك هي المواطنة، فماذا عساها تكون إذن؟ تدحرج الزمن وتعاقبت أجيال من البدون على أرض الكويت، ولو كان الآباء الأوائل للبعض قد أخفى أو تخلص من جنسية من أجل البقاء في الكويت، فما ذنب الأبناء والأحفاد الذين لم يعرفوا أرضاً غير هذه الأرض، يتكلمون لهجتها ويستخدمون خدماتها ويسهمون في اقتصادها، ولو من خلال مشترياتهم الحياتية اليومية البسيطة، حتى يحرموا من ورقة ثبوتية تضمن حقهم الإنساني في الانتماء؟
«منهم حرامية ومخادعون، بل ومتعاونون مع الجيش العراقي إبان الغزو».. وأقول أطلقوا أصابعكم في اتجاه مجموعة إنسانية، ليس بينها أشرار أو خونة. فالبعض من البدون كذلك، ليس لأنهم «بدون»، ولكن لأنهم بشر يتماثلون مع بقية الستة مليارات على سطح الأرض في تقلبهم بين الخير والشر.
«منهم من أتى متعمداً لأرض الكويت ليتحصل على جنسيتها ويستفيد من خدماتها وثرائها».. وأقول، وكم من العوائل الكويتية تقرر استقبال مواليدها على أراض أوروبية أو أميركية لاستخراج شهادة ميلاد توفر خدمات لأبنائها على الأرض الأجنبية، وتكون سنداً لهم إذا أغبرّ الزمن وتعكر؟
وماذا نقول في الكويتيين الذين هاجروا من أرضنا ليدرسوا ويعملوا، ثم يستقروا في الخارج ويصبحوا مواطني أراض جديدة؟ هل هم خونة أم أن ظروف حياتهم قادتهم لأوطان أخرى كانت أرحم بهم، وأكثر كرماً في توفير الفرص لهم؟ وهنا نصل للسؤال الأهم: ما هو الوطن؟ أرض نعيش عليها؟ نحبها؟ نتمتع بخدماتها من دون أن نحبها، نتمتع بخدماتها ونحن نهيم بها حباً وامتناناً؟ هل كل الكويتيين ممتنون ومحبون؟ ما هو الفاصل في مواطنتهم؟ إن كان الفاصل ورقة أو تاريخا أو جدا لجد، فتلك حسبة إنسانية ضائعة وهزيلة، وإن كانت معايشة واستفادة مقايضة خدماتية واقتصادية، فتلك حسبة أكثر عدلاً، وإن كانت حباً وهياماً وبذلاً، فتلك حسبة مثالية ليتنا كلنا نرقى لها.
نحن بشر، نسعى لتأمين مصالحنا وتسهيل سبل معيشتنا، ليس في ذلك ما يعيب، ويبقى قيد النظر أمر الموازنة بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة، والتي تستمر في الواقع أزمة فلسفية أخلاقية على مدى الحياة البشرية. نعم، لا بد من حل إنساني للمشكلة، لكنه يبقى حلا مؤقتا، ضمادة على الجرح، نحتاج لحل دائم، دواء ناجع يشفي الجرح ويقضي على الألم. لا بد من تسوية وضع الجميع، تجنيس المستحقين، بل والمشتبه في استحقاقهم للجنسية، فتجنيس مئات الأشخاص الذين قد لا يكتمل استحقاقهم (مع صعوبة تعريف الاستحقاق كما أوردت سابقاً)، خير ألف مرة من حرمان شخص واحد يستحق، ويذهب حقه أدراج رياح التشدد والمغالاة.
البدون يعيشون بيننا، يتنفسون هواءنا، يحبون البلد، ويغضبون عليه، تماما كما يفعل الكويتيون، ليس عليهم واجب إظهار امتنان ومذلة لإثبات وطنيتهم، من حقهم أن يغضبوا وينتقدوا، حيث يبقى الإخلاص في العمل من أجل الوطن هو المعيار الحقيقي للفصل بين الجميع.
قد يبدو هذا الحديث ساذجاً ضعيفاً، وهو يصطدم بصراخ البعض من نوابنا وسياسيينا الذين يولولون على الهوية الوطنية غير مدركين، أو قد يكونون في الواقع مدركين، بأنهم يخنقون الهوية الوطنية، ويضيقون الخناق حول مفاهيمها ويحولونها إلى عنصرية بغيضة، وقسوة وحشية، هي ليست من الكويتية، أو الإنسانية، بشيء. سمعتها من قبل كثيراً: هذه نظرة ساذجة بسيطة لا يمكن أن تشكل حلاً رئيساً لأزمة سياسية مؤسسية في عالم اليوم الذي تتقدم فيه المصالح على الحقوق، وأقول، بل هي تذكير بالجانب الإنساني الحقوقي الذي كثيراً ما يتناساه السياسيون وهم يلمعون صورهم ويخططون مصالحهم على حساب كويتيين.. بدون.

جزر وكوسا

الجزر، الجزر لذيذ ومفيد، انه يقوي النظر. للجزر العديد من الفوائد التي لا تقتصر على الجسدي منها فقط، بل تذهب للنفساني والترويحي البريء كذلك.. فالجزر مصدر رئيسي لفيتامين (أ) وواق ممتاز للجلد، بل ان له أثرا تجميليا في الحماية من التجاعيد. كما أن الجزر فعال في تزويد الكبد بالطاقة والوقاية من السموم والإصابة بأمراض القلب والسرطانات المختلفة.
وللجزر في الواقع شكل لطيف، فهو خضار نحيف، ودمه خفيف، يمكن للانسان أن ينال قسطاً وافراً من التسلية، بينما هو يتناوله طعاماً لذيذاً سواء بشراشيبه الخضر اللطيفة أو من دونها. يتمتع الأطفال بالجزر كثيراً، وهم يستخدمونه كأنف «لرجل الثلج». كما أنهم يمثلونه لعباً آدمية عندما يوقفونه على طرفه المدبب محتفظين بشراشيبه الخضر، فيبدو كأنه انسان برتقالي بشعر أشعث كثيف، فيزود الأطفال بساعات من المتعة والمرح قبل أن يأكلوه هنيئاً مريئاً.
ولا ننسى أن للكبار نصيبا في التسلية كذلك.. فالجزر يمكن أن يقطع شرائح للتزيين، أو يبشر «شراشير» للرش فوق السلطة، ما يضفي شكلاً مبهجاً على الأطباق، إضافة للقيمة الغذائية. كما ويمكن أكل الجزر كاملاً «بغموس»، أو على شكل «سناك» سريع ونظيف في السيارة، وأثناء التنقل السريع.
والجزر خضار كوميدي حقاً بشكله الرفيع، وشراشيره الخضر، ولونه البرتقالي المصفر، الذي يقال إنه يصبغ المكثرين من أكل الجزر به، وذلك مما لا بأس به، حيث إنه اصطباغ مؤقت وجميل في الوقت ذاته، وذلك ما يحدوني لشكر «أوان» الجميلة على تبنيها لهذا اللون المتفائل، ويدفعني لدعوة باقي الجرائد لتحذو حذو «أواني» في اختيار هذا اللون الجميل والمريح للعين.
هنا يقتضي التنويه، أنه ليس على الجزر أي شبهة دستورية، بل، وبما أن الجزر يغذي ويبني جسد الانسان، فإنه إذن عامل وقاية من «الاهمال الجسماني» (مادة 10 من الدستور) بما يتواءم وروح الدستور، ويتفاعل إيجاباًَ مع مواده، كما ولم يسبق للجزر أن تورط في شبهة ازدراء، أو تحقير، كجبن الكرافت، بدهن خنزيره، أو كالجلي، بمادة جيلاتينه، هدى الله مصنعيهما ومورديهما ومستورديهما.
كما أنه لم يسبق لهذا الخضار أن كان طرفاً في اختلاف قضائي بين تجار، أو ناقلين، أو حتى آكلين عاديين.. لم يخدش الجزر حياء، أو يخالف نظاما، فهو على الرغم من استيراد بعض كمياته من الخارج، إلا أنه أحد أوجه العولمة الايجابية المتطابقة مع العادات والتقاليد اذا ما صفت النوايا.. لا يخالف الجزر أيا من المعاهدات التي وقعتها الكويت، ولا يؤثر في قيمة عملتنا الوطنية، وإن أثر، فايجاباً بكل تأكيد.
وبحسب آخر معلوماتي، ليس على الجزر أي شبهة شرعية، وليس هناك من شائبة في أمره، بالرجوع لروايات السلف الصالح، حيث لم يبلغنا استياء أي شخصية دينية، وعلى مدى ألف وأربعمئة سنة، من الجزر، الذي لم يدخل في أي عصر من العصور، أو عرف من الأعراف، ضمن المحظورات مطلقاً. فهو اذن حلال بلال.. نيئاً كان أم مطبوخاً، وجامداً كان أم عصيراً، ما لم يخلط مع مسكر.
أخيراً.. فانني أؤكد أنه ليس على الجزر شائبة اضرار بالعلاقات الخارجية، حيث إنه لم يكن سوى مصدر للتبادل الاقتصادي الطيب، مقطوع الربا، جليل المقاصد، لذا اقتضى التنويه بخلو ساحة الجزر وتطابقه التام مع القوانين والأعراف.
نعم يا سادة، انه الجزر، الجزر لطيف، الجزر لذيذ، الجزر جميل وخصره نحيل.. ولكن من دون ميوعة. الجزر طويل، ولكن من دون تكبر، الجزر برتقالي ولكن من دون تشبه بالغرب، ومن دون أي علاقات سابقة، أو لاحقة بحركة نبيها خمس الكويتية.. الجزر، انه الجزر، كله فوائد ومتع بريئة، أدام الله علينا نعمة الجزر، وإلى أن ألتقيكم الاسبوع المقبل، ترقبوا مقالي الجديد حول... الكوسا.

عصابه

«الدين، هذا النفق الذي يسلكه الجميع لتبرير الغايات النبيلة والحقيرة، يسلك طريقه الجميع للوصول إلى مقر المصنع الخلفي، حيث تفصل وتطرز الملبوسات لارتدائها في المناسبات التي تحتاج إلى الوجوه الصقيلة والعابسة. ولكل تصميم طريقة وحركة». عبدو خال من روايته «ترمي بشرر».
ونفقنا في الكويت أعمق وأظلم وأكثر رطوبة، نفق ذو حارتين، واحدة للدين والأخرى للوحدة الوطنية، يسلكه الجميع على متن سيارات فارهة تعمل على مادة نفطية نفاذة، يبدو أن استمرار استنشاقها، جعلنا جميعاً في حالة انتشاء تعمي الأبصار. ليس لدينا طوائف دينية، الطوائف والتنوعات الدينية موجودة في أميركا ودول أوروبا، حيث تتباين توجهاتهم، من حيث دور عبادتهم، ومن حيث المواد الثقافية والأبحاث العلمية والكتب المتعددة المنشورة حول التوجهات الروحانية والأصول الاجتماعية والسياسية والثيولوجية للطوائف والأديان المتعايشة في المجتمع، مواد تتنوع بين التعبدي الروحاني، إلى العلمي، إلى النقدي القاسي الساخر، إلى البحثي التاريخي الذي يرمي إلى مصنّعيه الأديان على يدي الإنسان. تلك هناك.. بعيداً.. هي طوائف دينية فيها تعبد، وفيها تفاعل مع أغلب التوجهات الفكرية في المجتمع المتدين منها والإلحادي.
أما في بقعتنا المظلمة فلدينا مافيا دينية طائفية. لدينا حوار.. بالكلاشينكوف والأحزمة المتفجرة. لدينا بحث علمي.. يقدس ويبجل، بل ويعبد رموزا مضت، لدينا نقد قاس وساخر فقط للطائفة المقابلة في محاولة لتسيّد الموقف والارتكاز على درجة الفرقة الناجية، رافعين كأس الانتصار المملوءة بالدم، بحث تاريخي.. طبعاً، فالتاريخ الإسلامي صفحات ناصعة البياض، ومن يجرؤ على قول غير ذلك فليلته حمراء، ونهاره أسود، بإذن نمور الفضيلة وبمشيئة فهودها. مافيا قوية مدعمة مادياً مشتبكة مصالحها مع مصالح أكبر عصابات العالم الدينية والشمولية السياسية والديكتاتورية الحاكمة. تشابكت المافيا الدينية عندنا مع مصالح نيابية، فتم تقسيم العمل: «نحن ندافع عن الدين وأنتم تدافعون عن الوحدة الوطنية»، حصار ينذر بالوبال، يتجلى على أرض الواقع بتصرفات مافيوية هي ديدن عصابات، وليست أسلوبا حضاريا لإدارة دولة عصرية، بلطجة تظهر لعيان المجتمع الدولي في سلسلة الطرد التي تشابكت وتوالت بشكل مخجل، من الفالي إلى أبو زيد إلى العريفي، وسلسلة «القبض» التي يبدو أنها بدأت بالجويهل، بطريقة هوليوودية مثيرة، إلى ما سيتبعها من إلقاء نصف أبناء الوطن وزائريه في السجون على حس قانون المطبوعات المعدل و«ضوابط وشروط» دخول الكويت المقترحة من 22 نائباً على ذمة القبس 21 يناير.
تلك ليست قوانين وضوابط بلد متحضر، منضو تحت منظومة العالم المدني الراقي، تلك ضوابط حرب. إنها قواعد اقتتال، تحريض سافر للشعب بطوائفه وتوجهاته السياسية والفكرية على بعضه البعض. فعندما يشرع ممثلو الأمة لضوابط قمعية وعقوبات قاسية مرعبة ترمي لتكميم الأفواه، وقمع الرأي، وحجب العقل، ومنع الفكر من الدخول الى البلد، أو الخروج من عقول الناس الى النشر، ذاك منحى لا يرمي إلا الى تشكيك الناس بعضهم ببعض، وتخريب النوايا وتعزيز القراءة السلبية لكل ما يطرح أو ينشر.
كلما كتب مقال سنفكر، هل المقصود طائفة معينة؟ هل هناك إشارة لصحابي معين، أم تشكيك لفكر ديني محدد أم هي نية مبيتة للمساس بالذات الإلهية؟ كلما أذيعت مقابلة نتهامس، من المقصود، هذا النائب أم ذاك، هل هي إشارة لدولة صديقة، أم المقصود رئيس الوزراء أم «رمز آخر» من رموز البلاد؟
القوانين والضوابط الجديدة ستجعلنا في حالة تقص للمقصود دوماً، وفي حالة إثارة لقراءة ما بين السطور، سنحمّل الكلام ما لا يحتمل، وسنخلق طابورا فكريا خامسا تحت الأرض، سيكون له وقع أشد ضرراً، وأثر أكثر فداحة من أي فكر، مهما بلغت شدته النقدية السياسية أو الدينية، يكون ظاهراً تحت الشمس.
تلك والله مافيا، إنه أسلوب عصابات وليس تقنينا دوليا. إنها نهاية للتعايش السلمي الذي يشكل الاختلاف في الرأي، بل والخلاف الفكري والثقافي حول هذا الرأي، جزء لا يتجزء من منظومته السلمية. إنه تقنين للالتفاف حول القانون، فالأفواه لن تُكمّم، ولكنها ستجد منافذ أخرى حول، وعبر، وفوق، وتحت القانون. وستبدو المافيا عندها ساذجة ضعيفة معدومة الحيلة أمام المافيا الشعبية التي خلقتها بنفسها.
تريدون الاستقرار؟ إنه يكمن في المزيد من الحريات ولا شيء غير ذلك. إنها قراءة صادقة في التاريخ البشري وليست محاولة للاصطدام بالرأي السائد: لا تجدي أي محاولة لتكميم الأفواه، فلو قنّن مشرعونا هنا فسجنوا نصف أهل الكويت، وأرعبوا نصفهم الآخر، سيصل الحديث من الخارج، سيصل نقد لرموز البلد ولسياساتها، للمسيرة الدينية ورموزها، بل وللدين كفكر فلسفي وللذات الإلهية، سيصل نقد جاد وراق، وسيصل نقد ساذج وشتم ورخيص، فما أنتم فاعلون؟ هل ستقننون لإخراس العالم؟ إن هذا الأسلوب البالي في التحكم بنوعية المعلومة التي تصل للمجتمع سواء كانت معلومة دينية أم اجتماعية أم سياسية كان ناجعاً في وقت مضى، حيث تمكنت بعض الأنظمة الشمولية القمعية من توجيه فكر المجتمع وتضليله وتحوير آرائه طبقاً لمصالحها الشخصية ولما يخدم أغراضها.
اليوم، هذا التوجه في ظل الثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات، لم يعد ناجعاً مطلقاً، بل بات يظهر مترهلاً ساذجاً خرف المنطق، متغضن المظهر. وفوق ذلك، وإذا ما وجد فرصة، فهو منطق خطير جداً في اعتماده على الحجب وليس التفنيد، فإذا ما تسربت معلومة «مختلفة» للمجتمع المقموع، تجد أفراده يثورون بوقع هستيري، هو عارض لقمعهم وجهلهم بطريقة التعامل النفسية والمجتمعية الراقية والمتحضرة مع المعلومة، كما حدث عندنا وللأسف الشديد في أكثر من مناسبة محلية وإقليمية.
نعم، لم تعد البلطجة الإعلامية ناجعة، بل أصبح الحل المنطقي الإلزامي كامناً في تغيير النفس، في تطوير طريقة استقبالنا للمعلومة وطريقة تعاملنا معها، فليس لنا من سلطة إلا على أنفسنا، لن نتمكن يوما من إخراس الألسن، ولو مشينا بمشرط حاد وقلبنا الدنيا مجزرة، فأقصى ما سنجني هو كمية «لسانات» دامية ستفوح رائحتها مع الزمن. إنما النهج الصحيح هو في أن نفتح عقولنا ونثقف أنفسنا لاستقبال المعلومة، فنحسن فهمها والتعامل معها. الحل إذن يكمن في تأهيل الناس سياسياً ودينياً واجتماعياً، وهو تأهيل يختلف تعريفه حسب التوجهات، والاختلاف في التعريف يفتح باب المنافسة الفكرية الشريفة. فالمنظمات الدينية ستؤهل بطريقة تختلف عن المنظمات المدنية، وتلك مختلفة عن المنظمات الإنسانية الشعبية وغيرها، فيجد كل فرد ما يناسبه، ويتنافس المجتمع تنافسا فكريا شريفا حرا. هكذا يكون التعايش، وليس بأي وسيلة أخرى. منطق «الكبوني» هذا لن يجدي نفعاً في عالم اليوم، فالكويت دولة مدنية لا يمكن إدارتها بالقوانين العرفية لحراس الدين والوحدة الوطنية، الذين، ويا لسخرية القدر، اتحدوا على آخر الزمن.