الأحد، 14 فبراير 2010

عندما تصبح القيود حناناً

«وتمر السنون مثل الثواني
عندها تصبح القيود انعتاقاً
وانطلاقاً إلى عزيز الأماني»..
غازي القصيبي
أكتب لكم وأنا على أعتاب حفلة ياسمين، وردتي عمرها اليوم ثماني سنوات، ثماني سنوات مفعمة، كل دقيقة رشرشتها ياسمينة بقبلات الطفولة المبللة، بدموع دلع أحلى من العسل، بطبعات أصابعها اللزجة على شبابيك البيت، بقايا الشكولاته على مكتبي، شخابيطها تسربها على أوراق عملي، سنوات لن يكون مثلها في حياتي بعد أبداً. أتطلع في وجهها وأنا أجوب أطراف بيتي الصغير، لأضيف لمسات طفولية تخفف من آثار «الكبار» الذين يعيشون فيه، من صرامتهم وجمود تحَفهم وجدية معلقاتهم ولوحاتهم.
أغطي هذه اللوحة لامرأة جميلة حزينة على حائط غرفة الطعام، بصورة طفولية لأراجوز مطبوع أسفله بحروف ملونة صارخة «عيد ميلاد سعيد يا ياسمين». أزيل هذه «الفازة» الباهظة الثمن التي استلمناها هدية منزلنا الجديد، وأضع مكانها باقة ورود ورقية صنعتها ياسمين بنفسها قبل يومين، استعداداً للحدث الكبير المهم. أملأ السقف المغطى بديكور رتيب وممل ببالونات طائرة ملونة تحلق في سماء البيت الصغير. يقفز قلبي فرحاً وأنا أتذكر أعياد ميلادي. أتذكر التاج الأبيض الذي أصررت أن ألبسه في ميلادي الثامن، والفستان الأبيض «يدور ويدور»، وهو تعبير تفهمه الصغيرات فقط، لأنني أميرة، ولأنني جميلة، ولأنني أهم إنسانة في الدنيا.
يا لزخم براءتنا ونحن نعتقد أننا أميرات، وأننا محور الدنيا، ونحن نعبث في سنوات طفولتنا النقية الخلابة. أنظر لياسمين من طرف عيني، تركض هنا وهناك، تسهم في إعداد الطعام بطبعات أصابعها على قالب الكيك، «تعصّب» على طلال، أخيها الكبير، لأنه يغيظها ويعايرها بأنها «بيبي» لا تستطيع قيادة السيارة مثله. تركض إلى حضن أختها صفاء، وتصر أن تراجع معها المسابقات التي سيلعبانها مع ضيوفهما المهمين.
ديني ودنياي أنتم يا صغار، فرحتي وزوغ قلبي، جنتي ونار روحي، مع كل واحد منكم أعيش سنوات طفولتي الخلابة، في كل عيد ميلاد أعلق البالونات، ألصق الأراجوز على الحائط أعود أميرة صغيرة جميلة يحوم حول وجودها الكون كله. فرق بين دفء الدنيا في الثامنة و«لسعتها» في الثامنة والثلاثين، ولكن، تبقى رحلتها رائعة، مثيرة ومفعمة بكل تلك المشاعر التي تجعلنا بشرا: خوف وحب وتردد، ندم وإقبال وإصرار، عناد وتمسك، مداورة ومناورة، تجعل للحياة طعماً ولوناً ورائحة، كلون بالونات ياسمينة، وطعم كعكة عيد ميلادها، ورائحة راحة يدها بعد وجبة من الحلويات الدسمة.
مرّ الاسبوع الماضي بقسوة، حافراً خطوطاً في قلبي، ولكنه كان تمريناً رائعاً لعقلي، اختباراً صاخباً لمبادئي ومثلي، وكان ختامه مسكاً: كعكة وبالونات وبيتا يصطخب بالصغار، ويضج بنا نحن الأمهات، ننتحي جانباً نستجدي فيه هدوءاً من العفاريت الصغيرة لنهمهم نحن بأخبار الكبار. نفرقع مزحات خالية من كل معنى إلا للضحك الصافي، ونضحك ملء الأشداق المحمرة والخدود الملونة، ونحن «ننم» على رجالنا، بينما تتجه أطراف عيوننا للصغار، نحملهم نظرات عشق وهيام لهم ولآبائهم الذين لا نفتأ ننالهم بالنميمة واللوم والتقريع.
يا لحياتي الرائعة الصاخبة الجميلة، وما هي الدنيا لو عشناها «جنب الحائط»، نخبئ مبادئنا ومثلنا تحت عباءات الخوف. نحبس مساندتنا عن هؤلاء الذين يمشون في منتصف الطريق وحدهم. نسير بهدوء من أجل لقمة العيش، ورضا الناس، وفي الطريق نكتشف أن اللقمة ذابت، ورضا الناس خلف غضباً ورفضاً تجاه أنفسنا. يا لضياع العمر إن لم نعشه كبالونات ياسمينة، ألواننا فاقعة. أجسادنا طائرة. لا نخشى أن نرتفع ونرتفع إلى أن ينتهي هواؤنا، فنهبط بحنو وسلام على الأرض بعد رحلة رائعة وجريئة... وملونة.
آخر شي:
لا يفوتني أن أرسل بالونة ملونة لكل من أرسل ضمادة جميلة خلال الأسبوع الفائت. تجمعت ضماداتكم الطيبة حتى غطت الألم، وفاضت على مساحته. ولمن أرسل ملحاً يرشه على الجرح أقول، أحياناً الملح دواء، وإن كان مؤلماً، وتمريناً للعقل والقلب، للفكر والمشاعر، لكم أرسل بالوناتين: حمراء تشكركم وبيضاء تعلن أن السلام في قلبي لا «يحمضه» ملح بحار الدنيا بأكملها. وبالونة خضراء نقية لقلب لا أستحقه، وأنا أسمعه يرد على النقد فيقول «هذا رأينا وليس لدينا ما نخفيه، نحن ثابتون على موقفنا» أقبل جبينك يا «ولد مظفر»، ليس لدفاعك، لكن لإشارتك لنا كشخص واحد، ورأي واحد، فضاعف قوتي، وتوأمني معك، فلا أشعر بوحدة بعدها أبدا.
وأخيراً بالونة قوس قزح لزيارة والديّ لي صباح «يوم الهجوم» وتطييب خاطري بالقبلات، وبهدية مالية حتى أشتري لنفسي ما أرفه به عن قلبي.. ترى هل لايزالان يعتقدان أنني في الثامنة؟
محبتي لكل من تواصل. عيد ميلاد سعيد لكل من أضاف سنة لعمره يوم أضافت ياسمينة سنتها الثامنة لعمرها.. دمتم بحب وحرية وسلام.

السبت، 13 فبراير 2010

اسئله وضحتها د.ابتهال الخطيب

هذه بعض الأسئله التي وضحتها د.ابتهال الخطيب في مقابلتها في الراي

س1:مارأيك بزواج المثليين؟

واذا كان هذا الشيء (السماح بزواج المثليين) حقا منحته لهم دولتهم أو انهم يجدون له مجالا في مكان آخر فهذا شأنهم «بكيفهم» وانا لا أملك ان أرد حقوق الناس، وفي بلدي اذا كان هذا الشيء غير مشرع لهم فخلاص يقفون عند هذا الحد، أما مسألة انشاء جمعية فهي كمسألة اقرار زواجهم... تريد ان تنشئ جمعية يعني اقرار بوجود مجتمعي واقرار بالوجود لهم كتوجه جنسي وهذا غير ملائم الآن لسبب وهم انهم (المثليون) لا يمكن قبولهم في المجتمع حتى كحالة مرضية غير مقبولين والناس هنا تريد ان تضعهم في حفرة وتشعل فيهم النار مثل النازيين وهذا غير مقبول ونحن في حقوق الانسان نساعد كل من يلجأ لنا ولا يمكن ان نرد احدا يريد الرحمة والمساعدة مهما كان توجهه ومهما كان ذنبه اذا اعتبرت ان المثليين مذنبين، وهناك دراسات كثيرة عن المثليين ان هذا اختيار أو حالة بيولوجية لا يمكن التحكم فيها والأبحاث في هذا المجال كثيرة، ولذلك أنا اعتبر هؤلاء مواطنين ولا شأن لي في اختيارهم الجنسي، واذا نفذوا اختيارهم الجنسي في الشارع اعاقبهم واحبسهم حالهم كحال الزوج وزجته الذين يتطاولون في الشارع، لكن طالما كانوا خلف باب مغلق فحسابهم بينهم وبين ربهم، وانا لهم على مكانتهم كمواطنين... محترمين روحهم.. ما يطوفون اشارات المرور.. ملتزمين بقوانين البلد... اذا انا لا شأن آخر لي بهم وهذا رأيي في المثليين.

س2:مارأيك بعد رقابة المواقع الإباحيه؟؟


المواقع الاباحية يجب أن تقنن ويجب ان تحتوى ولا تطلق هكذا، ويجب ان يكون عليها حجب انترنتي بحيث يبن أن هذا موقع اباحي ومو أي أحد يقدر يدخل عليه خصوصا الأطفال، والكبار يستطيعون بألف طريقة الدخول اليها، والمشكلة ان الناس لاتعرف الفرق بين الاباحي وغير الاباحي.

س3:مارأيك بتعدد الأزواج الذي تكلمت عنه نادين البدير؟؟

نادين البدير مثلاً لم تحث على تعدد الأزواج، بل كتبت مقالاً ساخراً لتبين للرجال طعم الألم من تعدد الزوجات، ولتقول لهم: ما رأيكم لو كان فيه تعدد للأزواج، وأنا يا أخت سارة قلت بأني أؤمن بالأسرة (الأب والأم والأولاد) ولا أؤمن بتعدد الزوجات ولا تعدد الأزواج، وهذا هو المنطق الصحيح عندي ولا يعني ذلك ان منطق ابتهال الخطيب مُنزل من السماء، فللناس آراء مختلفة ومنطق مختلف، ونادين البدير إذا كانت تعبر عن رأي مختلف فلتعبر عنه كما تشاء، وإذا كانت تطاولت على أُسس ولوائح دولة الكويت فالمحاكم موجودة، لكن مسألة أن نسكتها فهذا يعني ألا يكتب أحد أي شيء بعد ذلك، وهذه حرية رأي وحرية منطق.

س4:هل الليبراليه ضد الدين؟؟

صراع الليبرالية ضد فرض الدين، هو أمر مختلف تماما عن الصراع ضد الدين، إن فرض نهج روحاني واحد في الدولة يسبب نمو النزعات الطائفية، ولم يتخلص الغرب من عنف العصور الوسطى وظلاميتها إلا حين تراجعت المؤسسة الدينية عن سلطتها السياسية، وتكتفي بممارسة دورها الروحي فقط..! فالمنهج العلماني لايعادي الدين، والمشاكل التي تعاني منها السياسات الدكتاتورية سواء كانت دينية أو لا هي نفسها مادامت تصادر حرية الفرد، ليصبح بحاجة إلى كسر النهج المفروض عليه قسراً.

ماموقفك من قضية البدون؟ 
 
باعتباري عضوة في جمعية حقوق الانسان فقضية البدون من أولوياتي، وقد كتبت مقالا مطولا نشر في «اوان» قبل فترة، وكانت لي ندوة في احدى الديوانيات قبل مقابلة الـ (LBC)، وامتد الحوار بها لمدة ثلاث ساعات، ولي رأي مختلف قليلا عن بقية الآراء في قضية البدون ويعتبره البعض حادا نوعا ما، ودائما أتحدث عن تلك القضية، وأعتقد بأنها القضية الأهم على الساحة التي يجب حلها لصالحنا جميعا، والموضوع حساس وكنت من منظمي ندوة البدون مع الدكتور غانم النجار والتي أقيمت قبل فترة، وارى ان راحة البدون وحصولهم على حقوقهم هي من راحة وأمن البلد سياسيا واجتماعيا وقانونيا، وانا لي نشاط في هذا الاتجاه لكنه ربما غير معلن، وأوعدك ان أي حديث قادم أو ندوة سيكون لهذا الموضوع حيز كبير.

الجمعة، 12 فبراير 2010

لن أتخلى عن أي كلمة قلتها.. ولا عن رأي أدليت به

اتصل بي عدد من الأحبة والأصدقاء والمتابعين، يطالبونني بتقديم توضيح للّغو المخطوط على الإنترنت حول مقابلتي الأخيرة مع وفاء الكيلاني على LBC في برنامج «بدون رقابة». المتصلون أشخاص طبيعيون، يسمعون بآذانهم وتصفف عقولهم الكلمات في جمل، وتأتي الجمل بمعانيها الطبيعية، بلا زيادة ولا نقصان. لذا هم مستاؤون من الشر الصفيق الذي أتى في نقل أجوبتي، وأنا، لسبب لا أعيه تماماً بعد، أشعر وكأنني خارج دائرة الحدث، كأنني أراقب مشهدا «سيرياليا» من بعيد، ولا أستطيع سوى أن أشهق إعجاباً بتوحشه وغرابته وصلفه الشرير.
لا، لن أتخلى عن شيء مما جاء في المقابلة. أنا متمسكة بكل كلمة قلتها، ومؤمِنة بكل رأي أدليت به في تلك الليلة الليلاء. لكن، لا يستطيع الإنسان الذي يملك عقلاً ومنطقاً، سوى أن يقف بخفر ووجل أمام جرأة النقل بطريقة لا أستطيع أن أصفها حتى بالكذب. وقد يضع لها القراء وصفاً يعجز عقلي عن صوغه. ومما جاء في المقابلة، رداً عن أسئلة السيدة الكيلاني، أن قلت إن هناك الكثير من الفتاوى المدفونة في أمهات الكتب، الشيعية والسنية، التي تحتاج لإعادة نظر، ونفض، بل وإزالة تامة لابتعادها المهول عن المنطق الإنساني، منها مثلاً فتوى إرضاع الكبير والتمتع بالصغيرة، فجاء العنوان الإنترنتي «ابتهال الخطيب تشجع التمتع بالرضيعة». قلت إن الزواج المثلي يتم تشريعه في بعض المجتمعات، طبقاً لدراسة اجتماعية، لاعتقادهم بحاجتهم لمثل هذا التطبيق، ولكن يصعب تطبيق هذه الممارسة في مجتمعاتنا، حيث يبنى عليها تغيير شامل لمفهوم الأسرة وقوانينها.
وعندما سألتني الكيلاني عن رأيي، وبشكل عام، في الزواج المثلي، قلت لها اذا سمحت لهم قوانين دولهم بذلك، فذلك حقهم وليس من شأننا، فجاء العنوان «ابتهال الخطيب تشجع زواج المثليين». قلت رداً على تعليق الكيلاني حول مقال نادين بدير، إن الاخيرة لم تطالب بتعدد الأزواج، بل أتى مقالها ساخراً من تعدد الزوجات كتطبيق متعسّف ضد المرأة في مجتمعاتنا.
وأكدت أنني لا أؤمن بالتعدد سواء مؤنثاً أم مذكراً، وأنني أؤمن بالأسرة النووية من أب وأم، ولكنني مع حق البدير في إعلان رأيها أياً كان، ثم نردّ عليها الحجة بالحجة، فجاء العنوان «ابتهال الخطيب تؤكد تأييدها بشكل قاطع لتعدد الأزواج». قلت رداً على سؤال الحق بالمجاهرة بالإلحاد، إنني مع حق الإنسان بالمجاهرة بمعتقده أياً كان، (والذي هو حق أصيل في الدستور الكويتي) فجاء العنوان «تؤيد الخطيب وبقوة المجاهرة بالإلحاد».. كل ذلك جاء مطعّماً بالشتائم والسباب، منه ما لم أسمع به من قبل، مختوماً بالصلوات والتسليم والدعوة على أعداء الدين. كيف أردّ على، أو أفند ما لا يحتاج لردّ أو تفنيد، كيف أبين أن نقدي للفتاوى أعلاه مثلا هو «رفض»، وليس مطالبة تطبيق، هل أفسر الماء بالماء؟ ليس لديّ شرح أفضل لما قلته عما قلته. ويبقى هنا تنويه مهم، هو ركيزة آرائي التي أطلقتها في البرنامج: أنا إنسانة حقوقية في الدرجة الأولى، عملي التطوعي الأساسي ينصب في الحريات وحقوق الإنسان، لذا لا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أسمح لمعتقدي أو توجهي الفكري أو مشاعري أو آرائي الشخصية أن توجه أحكامي الإنسانية. فمثلاً أنا لا أعرف مؤسسة حقوق إنسان معتبرة تقر مبدأ الإعدام كعقوبة، على الرغم من إقرار هذه العقوبة في كل الأديان السماوية، وذلك لأن حقوق الإنسان ليست مفصلة لأصحاب ديانات، أو تقاليد، أو توجهات معينة، بل هي مظلة تظلل البشرية جميعها. فعندما أُسأل أنا عن رأي حقوقي، فإنني أضع نصب عيني نظرة إنسانية عامة تخلو من أي أحكام مسبقة، أضع حقيبتي الإنسانية التي أحمل فيها إيمانياتي ومعتقداتي ومشاعري جانباً، وأتخفف من كل تحيز، ما أمكن، لأصدر حكماً إنسانياً يمكن تطبيقه على الستة مليارات إنسان على سطح الخليقة.
المبادئ لا تتجزأ ولا تنتقى، وليست رهن الموقف أو الوقت أو الأشخاص المعنيين وتوجهاتهم، المبادئ الإنسانية شاملة، عامة، متحررة من كل تقليد، أو انتماء، متلبسة ثوب الإنسان في أنقى وأبسط صوره دونما قيد أو شرط أو توصيف. الحقوقي يشبه عمله عمل المحامي إلى حد ما، فالمحامي يدافع عن المتهم ما أمكنه ليضمن له حكماً عادلاً ما أمكن، وكذا المؤسسات الحقوقية، دورها أن تسعى للدفع بالحق الإنساني، بالتسامح والقبول ما أمكن، ولو بطريقة مبالغ فيها كما يبدو للبعض، حتى يتوازن عملها مع الشر الكثير في الدنيا. عندنا يصدر حكم بإعدام شخص ما، تنفر الجمعيات الحقوقية لرفض الحكم وللتذكير بالحق الإنساني للمتهم، وهذا ليس إقراراً ببراءته، ولكنه إقرار بإنسانيته التي تستحق التعاطف والتسامح حتى آخر درجة.
أخيراً، لا بد أن أقول إنني أقف مشدوهة أمام طبيعة البشر «التكافلية».. كيف يمكن لإنسان أن يؤلف كلمة، أو يطلق كذبة، أو يبعث استثارة، فتتدحرج ككرة ثلج تتضخم بانضمام آلاف البشر إليها من دون وعي منهم، تكنسهم في طريقها فيستسلمون سعداء بانضمامهم إلى تلك الكتلة البشرية الهائلة، مؤمنين بأن تكون «نتفة» في كرة الثلج الكبيرة، تتدحرج مع الآخرين وتستقوي بتكتلهم خير من أن تقف وحدك شجرة جرداء صغيرة ترتجف أمام الكرات المهولة. إنها ظاهرة إنسانية خارقة تدهشني في كل مرة تتمثل أمامي، بكل قوتها، وبكل عواصفها، وبكل هياجها، ثم بكل ضعفها وخوائها. فما أن تشرق الشمس، حتى تذوب كل كرات الثلج مهما عظمت، وتبقى الشجرة الجرداء المنبوذة، وقد تخضّر وتكبر وتتفرع. تحديداً، نحن مخلوقات «شرقية» غريبة، لا نتعلم من تاريخنا، نعشق الانضمام للركب، شعارنا «إللي يحب النبي يضرب». لا نعرف للتفرد قيمة، ولا نعي للأمان معنى، إلا ونحن في ركب الجماعة، ولا مانع من أن نكون مركوبها (وهو الحذاء في اللفظ المصري).
من موقفي ههنا، يبدو المشهد عجيباً جداً، سيريالياً، معقدا جداً وساذجا جداً، لوحة إنسانية خالصة في نقصها وعيوبها، وأنا أحب العيوب، فهي طبيعية، إنسانية، وتعلمني أشياء ثمينة. وللأحبة المهتمين أقول اتركوا عنكم الألم والاستياء، وتعالوا معي إلى خارج الدائرة. انظروا في مشهد هذه الكرة الثلجية الرائعة، على الرغم من خوائها.. ظاهرة إنسانية عظيمة وفظيعة، وبما أننا في طريق الكرة لا محالة، فلا مانع من الاستمتاع بالمشهد، على الأقل، والابتهاج باللعب بالثلج الى أن يأتي الله أمراً كان مفعولا.

هل عقولنا عورة كما هي أجسادنا؟ أم ترى الأفكار هي العورات، الأفكار هي منابع الشهوة واللذة المحرمة لذا يجب تغطيتها وحجبها؟ ترى ممن يأتي الخطر، ومن منهما سيصلينا النار.. عقولنا التي تفكر، أم الأفكار التي تغزو عقولنا؟
فيم يحاول الحرس الجديد التحكم تحديداً، هل يريدون حجب العقل أم تحجيم الفكرة؟
قبل سنوات، وفي الفصل الدراسي الجامعي، كنت أناقش وطلبتي مسرحية «دكتور فاوستس» للمسرحي العظيم كريستوفر مارلو، تحكي المسرحية قصة هذا الفيلسوف المطلع على شؤون الدنيا وأسرارها، دكتور فاوستس، وكيف أنه ملّ الحياة لعدم وجود أي جديد يتعلمه فيها، فقرر أن يبيع روحه للشيطان من أجل ما خفي عليه من علم، ومن أجل قوة تفوق كل قوى البشر. سألت طلبتي، ما هي مادة المقايضة من وجهة نظركم؟ ماذا باع الدكتور فاوستس تحديداً للشيطان، فكره، وجوده، أم شيئا آخر؟
عند نهاية المحاضرة، رافقتني إحدى الطالبات للخارج محتجة تماماً على النقاش، لأن الروح من أسرار الخالق، وليس لنا أن نناقشها. نوهت للصغيرة بأننا نناقش من منطلق فلسفي أدبي للوصول لمقصد الكاتب، وليس المنحى هنا ثيولوجي مطلقاً، إلا أنها أصرت على حرمة الحديث وخطيئته. أخبرتها أنها معفية من النقاش، وأنا أتنغص حزناً على هذه الصغيرة التي لم تكمل سنواتها العشرين بعد، ولكنها حجبت عقلها، وأغلقت منافذ روحها عن كل جديد. حزمت أمرها وهي في الثامنة عشرة، وأعلنت توفر كل الحقائق لديها، فما عاد هناك جديد لتفكر فيه.
ستُحرم هذه الشابة من أي غموض، لن تسبح روحها في الفضاء اللامتناهي، لن تتفكر في أسراره، ولن تتساءل حول قدراته، فتلك المعلومات، إما محسومة أو محرمة، ويا لهول المصيبة في هذا العمر الصغير، يا لضياع العمر والعقل، يا لخسارة التنازل عن كل هذا الغموض من حولنا، كل هذه الخبايا التي تنتظر اكتشافها، الأسرار التي تنتظر تبيانها، كل هذه التساؤلات التي تنتظر الإجابة عنها بتساؤلات أخرى متتابعة مستمرة تحيي الروح وتسمو بها وتوحدها بالعالم اللامتناهي من حولها، كل هذه الروعة والجمال والغموض، كل هذه الطاقات الإنسانية الخلابة، كلها يتم تسليمها على بوابة المسلمات، يحرسها الحرام من جهة والخطيئة من جهة أخرى.
وتبقى تلك العقول الغضة الطازجة بتساؤلاتها وطاقاتها الكامنة عورة يجب حجبها وتلحيفها سواداً قاتماً حتى لا تثير غرائز الآخرين، أم هي الأفكار والتساؤلات التي تحتاج حجباً وتغطية لأنها هي مصدر الإثارة والمتعة والثورة على الموروث؟ في كلتا الحالتين، الضحية هي الروح، الذات، الهوية، حيث يصبح البشر أغلفة جلدية، محشية بأفكار مسطحة ومشاعر محسوبة، مجرد أدوات تنفيذية لأفكار ومسلمات لا يحق لهم مراجعتها. إن لم يقتلنا فضولنا وتوق أنفسنا المتطلعة والمتسائلة، فبلا أدنى شك سيقتلنا الملل من هكذا حياة باهتة قميئة.
تلك دعوة لمساءلة الفكر الموروث ومراجعته، والثورة عليه، إن استدعت الحاجة وحتم المنطق، وذلك لتطويره وتجديده، ومعه تطوير وتجديد وإعادة احياء أنفسنا من جديد. عقولنا ليست عورة وأفكارنا ليست عورة، وتساؤلاتنا ليست ذئبا يتربص بعقولنا ليغتصبها ويدنس شرفها، عقولنا زهو إنسانيتنا، وتساؤلاتنا إحياء وتكريم وتشريف لتلك العقول.
أما الحجب والمنع، فهما عملية قتل مقننة لكليهما، الروح والعقل. فرحمة بالغض الصغير منهم، هم لا يفقهون لعبتكم ولا يعرفون كيف يدافعون.. عن حياتهم.

الاثنين، 1 فبراير 2010

جنّتي في حريتي

ما إن ختمت وفاء الكيلاني مقابلتها معي في برنامج «بدون رقابة»، الذي بثته قناة LBC يوم الأربعاء الماضي، حتى خابرتني آخر من توقعت أن تخابرني.. رقيقة وحانية ومستاءة وخائفة.. وبّختني بإصرار وحنان وخوف، ما أزاغ قلبي على قلبها، وأضاعني في لجة من تعذيب الضمير تجاه خاصتي الذين أحبهم ويحبونني. أحملهم أنا أكثر مما يحتملون بأنانية قد يسميها البعض شجاعة، وإصرار يسميه آخرون عناداً ومكابرة. ولكنني لست شجاعة ولا مكابرة، أنا أفكر... فقط، ثم أعبّر، ثم أحزن على إيذاء أحبتي، ثم لا ألبث أن أفكر مرة أخرى، فإذا الأفكار كلمات، وإذا الكلمات غيمات تمطرني حزناً على إيذاء من أحب.
وعلى الرغم من أنني أكتب مقالي هذا، وأنا تحت مطر وجعي، بداعي ما تسببته للحبيبة المتصلة من ألم وخوف، إلا أنني لم أستطع أن أقاوم تحليلي لحديثها الحاني المتألم، والذي انصب في خانتين: الأولى أنني تعديت حدود حرية الرأي، لأن ما عددته حرية يخالف الشريعة (حسب قولها) ويصطدم بالعادات و«يداحر» رضا الناس، والثانية أنني أعرّض نفسي لخطر جسدي له انعكاس على عائلتي الكبيرة والصغيرة بأنانية لا أفقه مدى خطورة أثرها... أنظر في منطقها الأول وأفكر، ما هي حرية الرأي، وعلامَ تنطبق، وما هي حدودها؟
في اعتقادي، حرية الرأي تتمثل في ممارسة حرية التعبير اللفظي والمعيشي، وحدودها تتسيج بقانون البلد المدني، ولا شيء غيره. أما موضوعها، فهذا مربط الفرس. يبدو لي أن الرأي السائد، هو أن حرية الرأي محمودة ومقبولة طالما أن الرأي المطروح يتفق مع الرأي السائد ومع الدين ومع العادات والتقاليد. وهذا منطق يسجن الرأي ولا يحرره. احترام حرية الآخرين يتجلى في إفساح المجال تحديداً لآرائهم المخالفة لآرائنا، في احترام معتقداتهم المختلفة وحقهم في ممارستها والتعبير عنها. وكلما تباعدت المسافة بين آرائنا وآراء «الآخرين»، تعاظمت الحاجة لمبدأ حرية الرأي والتعبير، الذي يصبح تطبيقه، على تكلفته النفسية، أعظم دلالة على رقي ورفعة أخلاقيات الأمة.
إذن حرية الرأي تتجلى تحديداً في توفير فسحة في القلب، وفي العقل، وعلى أرض الواقع في الحياة للآراء المخالفة لآرائنا، وليس للآراء المنطبقة مع آرائنا. السؤال الذي يكرره عليّ الكثيرون معتقدين أنهم يصطادون منطقي من «مياهه العكرة»، فيصفقونني بتهكم: أنت مع حرية الرأي، ترضين أن يكون لابنتك علاقات خاصة من دون زواج، مثلما يحدث في الغرب؟ والسؤال ينطوي على وجهتين، أولاهما أن الأخلاق تنحصر في الشرق، وفي الدين الإسلامي فقط، من دون وعي أن الأخلاق هي ركيزة أساسية في كل الأديان، وأنها، وهذا هو الأهم، سابقة للأديان، حيث أتت الأديان لاحقاً لتؤكدها وتثبتها وتشجع الناس على التمسك بها.
وثانيتهما، إن قبولي بحرية الآخرين يعني أن أتبنى تصرفاتهم وأمارسها وأدافع عن منطقها. وهنا تتجلى السذاجة والجهل المطبق بمبدأ حرية الرأي. فأنا قد لا أحبذ تصرفا ما، لا أؤمن به، بل وقد أستهجنه. وهنا يأتي مبدأ احترام حرية الرأي، واعتقادات الآخرين، ليحمي هذا الرأي من تعسفي واستبدادي. هنا، يقول لي منطق احترام الرأي الآخر، أن أفسح المجال وأتقبل الاختلاف دون ضرورة تبنيه، أو ممارسته بنفسي.
إذن، أنا لا أقبل بعلاقات غير مشروعة لابني أو لابنتي، على حد سواء، لأسباب نفسية وأخلاقية وصحية متعددة. ولكن هذا لا يعني أنني يجب أن أفرض هذا الكود الأخلاقي على كل من حولي، بل تتجلى فكرة احترام الرأي الآخر في تحملي لهذه الممارسة المختلفة والمخالفة لمعتقدي، مهما ثقلت واشتد أثرها على نفسي.
أما أن أحصر ممارستي لحرية الرأي في الآراء التي تتوافق ومبادئي، أو معتقداتي، فذاك استبداد مطلق. ومن هنا أنطلق للخانة الثانية من حديث متصلتي الحاني، ألا وهي الخوف اليومي الذي يعيشه أفراد «الأمة الاسلامية» من إطلاق آرائهم، خوف قارص وحارق على الحياة والمصالح يهددها كل من لبس جبة على رأسه، أو اعتمرها في قلبه، ثم نصّب نفسه ديّانا ومقرراً لكل ما يسوؤه، وجلاداً لكل من يعتقد أنه اعترض على أوامره ونواهيه.
كيف يمكن لأتباع أي عقيدة روحانية كانت أن يهددوا البلاد والعباد بالعنف الدموي لحماية عقيدة مسالمة مبنية على المحبة والرحمة والغفران؟ لا يعتريني خوف، ولا أشعر بتهديد، ولكن يعتريني حزن، وأشعر بتعاسة، لأن الآخرين يشعرونه لي ويخافون اقترابه مني. وعلى الرغم من أنني أعتقد أن هذا خوف مبالغ فيه، إلا أن تكوّنه في نفوسهم، هو بحد ذاته إشارة ضمنية خطيرة لنوعية الممارسة الدينية المتسيدة للساحة، والتي جعلت من الفكر الذي يفترض أن يكون مصدر رحمة ومحبة وأمان مصدر خوف وقلق وتهديد. هل لا بد أن نحيا في جهنم دنيوية حتى نصل لجنّة أخروية؟ أما من خيارات أخرى؟

الجمعة، 29 يناير 2010

جمر قلبي

أخذني حديثي مع طالباتي في مقرر الأدب والفنون، وقد ناقشنا خلاله الحضارة الهندية العظيمة وفنونها، الى مراجعة حارقة للنفس، وكم أكره (أنا) جلسات مراجعة النفس، كم أمقت الدوران في دخيلة قلبي، كم هو أحمر ودموي ونابض ومتألم وحقود وعاشق ومتهور وجبان هذا الداخل!! متناقض هو أيضا ومعقد، يصعب عليّ التعامل معه.. وعندما تجبرني الدنيا على أن أتقوقع داخله، فإنني لا أخرج منه عادة إلا مرهقة وحزينة.. وأبعد ما أكون عن الرضا، أو المصالحة مع النفس.
أتيت وفتياتي على الحديث حول مبدأ «الدارما» في الأديان الهندية القديمة، وحاولت وإياهن أن نتوصل إلى تصور واضح حول هذا المبدأ الذي يعني، بشكل عام ومبسط، الطريق الصحيح للحقيقة الوحيدة التي تمثل نواة الحياة، وهي حقيقة تختلف من إنسان لآخر، وعندما يصل الإنسان لمعرفة طريقه الحقيقي، ودوره الخاص في هذه الدنيا، يكون قد وجد الدارما الخاصة به. لم يكن من السهل استيعاب هذا المبدأ العميق الموغل المعنى في الفلسفات الهندية الأثرية القديمة، خصوصاً بمفاهيمنا الدينية الحديثة (نسبياً) ومنطقنا المغاير تماماً حول علاقة الإله بالبشر، ودور هؤلاء الأخيرين في الحياة.. إلا أن إحدى الفتيات أكدت أنها وجدت «الدارما» خاصتها، وجدت الحقيقة المطلقة، وهي تعرف تماماً دورها في الحياة، وعلى الرغم من إيماني التام بأنها لم تجد شيئا،ً وليست على يقين من شيء أبعد من وجود أنفها أعلى وجهها. إلا أن شعورا بالأسى الساحق طغى على قلبي، منذراً بواحدة من جلسات محاسبة النفس المقيتة.
ما أجمل يقين العمر الصغير، عندما كنت أعتقد أنني أعرف كل شيء، ويقيني تام ومتكامل، وأسئلتي كلها تملك أجوبة، وأجوبتي كلها تملك حججاً صلبة، عندما كانت خططي واضحة وغاياتي لا سبيل لإعاقة طريقها، عندما كنت متأكدة.. واليوم، تحديداً اليوم، تبدو لي كل الأشياء مقلوبة على رأسها بدلاً من الوقوف على أقدامها، يبدو الطريق مضبباً والغايات غريبة عني وأنا التي صنعتها، ليس لدي سوى أسئلة.. مكررة.. مملة.. سمجة، مثل الرطوبة الرابضة في يوم صيفي قائظ.. وأستغفر الله أن تحضرني أي أجوبة، تلك.. كاذبة، مخادعة، مثل حبة الأسبرين المسكنة للألم، ما إن يزول مفعولها حتى يضرب السؤال على العصب، حارقاً، لاسعاً، مكهرباً الجسد بأكمله!!
ثم ما عذاب الضمير هذا الذي لا يتركني أتنفس؟! يقال إن عذاب الضمير، هو ظاهرة أنثوية بامتياز.. فنحن خُلقنا لتعذبنا ضمائرنا التي لابد وأن تكون ذكورية التكوين.. يحرقني ضميري لأنني لم أضع صغيرتي في سريرها في تلك الليلة التي اصطادني فيها اجتماع، ويلسعني، لا سامحه الله، لأنني لم أحضر هذه الندوة التي كان يجب أن أشجع موضوعها، يؤنبني لأنني اشتريت هذا الحذاء المبالغ في قيمته، والتي يمكن أن تضع طعاماً على طاولة عائلة أخرى، أو تعلم أبناءهم، أو تطبب أجسادهم، ويعذبني كذلك اذا اشتريت ذلك الرخيص الذي آلم قدمي وبدد نقودي في صفقة خاسرة، يحرقني قلبي أن الكمبيوتر يأخذني من طبخة رائقة أقدمها لأسرتي من صنع يدي، وينقلب عليّ عقلي اذا أضعت وقتي في المطبخ متجاهلة ذلك الكتاب الذي ينتظرني بمذاقه الذي لا مثيل للذته.. إن ربطت شعري وددت إطلاقة، وإن أطلقته وددت ترويضه في عقدة.. لِمَ لم أجد «دارمتي» لحد الآن؟ وهل النظرية الهندية التي تقول إن وجودنا بحد ذاته هو عذاب يمتد بامتداد رغباتنا وشهواتنا وتطلعاتنا، هي نظرية حقيقية؟
انها مؤامرة حقيقية ضدي، أبطالها ضميري الوقح وقلبي الدموي وعقلي المتهور، الفرسان الثلاثة الذين يشرفون -بلذة- على هلاكي. وقد تحالف هؤلاء الثلاثة مع بوذا الحضارة الهندية وكونفوشيوس الحضارة الصينية، فأستمع لبوذا يقول «نحن نفكر، نحن نكون»، فيما يرفض كونفوشيوس أن يفكر في أبعد من الاصلاح الدنيوي فيقول «لم نفهم الحياة بعد، فكيف يمكننا أن نفهم الموت؟».. وبين هذا وذاك، يتلذذ عقلي بشتات الفكر الفلسفي، ويتعذب قلبي من رياضة عقلي المضنية، وضميري يشجع كليهما على الإمعان في أذيتي.. وإذا ما صحّت كلمات البوذا «نحن ما نفكر، كل ما نكونه يتأتى من أفكارنا، بأفكارنا نصنع العالم»، أجدني قد لا أصنع شيئاً لآخر يوم في حياتي، أو قد أصنع ثورة تأتي عليّ وعلى أعدائي!!
آخر شي..
يقول البوذا كذلك «إن التمسك بالغضب كالقبض على جمرة ملتهبة، بقصد رميها على إنسان آخر، لكنك أنت من يحترق».. فلمن أحرق، ولايزال، يديه بجمرات غضبه، كما أفعل، لنتفق على وضع الجمرات جانباً اليوم، ولنتسامح، قبل أن تترك جمرات الغضب كفوفنا محروقة مشوهة.

الغترة أم الفكرة؟

لا يمكن لأي إنسان يؤمن بمفهوم الدولة المدنية، وبأهمية الديمقراطية، كعمود رئيسي، ووريد حيوي لها، إلا أن يؤمن بالتفعيل السياسي للأدوات الرقابية لآخر منتهاها، وبأقصى طاقاتها. ومن هنا، نكرر تلك الجملة التي تيبست وتغضنت وتقيحت، ونحن نتقاذفها من نوافذنا تحت شمس الكويت الحارقة: «الاستجواب حق دستوري».
هو كذلك، ولا شك أن الحكومة لو التزمت منهج «إمش عدل يحتار عدوك فيك» لقطعت الطريق على الاستجوابات التي شلت البلد ومرافقه وحتى حواس مواطنيه.. ولكن هل النظام الديمقراطي الدستوري هو فقط تفعيل للأدوات الرقابية والتنفيذ النصي للقوانين ومواد الدستور؟
لا يمكن للديمقراطية الحقة أن تكتمل من دون أخلاق، من دون «رمز شرف» يحمي الديمقراطية الرقابية من التوحش والتعسف، ينأى بها عن النهش في أعراض الآخرين وأخلاقهم، ويرتفع بها عن شخصنة الصراع.
النهج المتداول على الساحة السياسية الكويتية الآن هو نهج دستوري يتربص به المتربصون، يفعّلون مواده لتنقلب عليه، يرجرجونه لتسقط أخلاقياته في القاع، وتطفو نواقصه الإنسانية إلى السطح، مكبرة، مضخمة، صفراء مقيتة للناظرين. لدينا دستور، يستخدمه «ممثلو الأمة».. على المسرح الديمقراطي، يشقلبونه ويتقاذفونه، ساعة يعرونه، تاركيه يرتجف برداً في خواء «المسرح».. وتارة يقمطونه بألف وشاح أسود، حتى يختنق من الحرارة. ونحن على كراسينا مشدوهين مشدودين، لا ندري أنصفق للمشهد الهزيل أم نضحك عليه! أم نترك كراسينا غاضبين. ثمن باهظ هذا الذي ندفعه جميعاً لديمقراطية بلا أخلاق، بلا «رمز شرف»، بلا حنكة، تجعلنا نختار معاركنا ونقدم الأهم على المهم، ونتغاضى، وتلك أهم الممارسات السياسية، عن بعض الخطأ من أجل الكثير من الحق والخير.
لست في عارض تبرئة الحكومة، فالمثل يقول، الرقصة تحتاج لطرفين.. والطرفان، بلا شك، يرقصان في جنازة ليس لها صاحب، أو كلنا أصحابها، ولكننا لا نريد أن نمشي خلفها. ولست في عارض الدفاع عن رئيس مجلس الوزراء، حيث إنني، وبكل وضوح، لا أفهم أبعاد اللعبة السياسية. فهناك شيك مكتوب من رجل، هو في أرفع منصب قيادي في الدولة، لآخر هو في أرفع منصب رقابي في الدولة.. ومهما كانت الملابسات والتبريرات، فالوضع لا يسر الناظرين للمشهد السياسي الديمقراطي الحق، ولكن، هل المطلوب إصلاح الخلل، أم المطلوب هو رأس الشيخ ناصر؟
في الجواب عن هذا السؤال تتجلى الأخلاق، تتغير أساليب المعالجة، وتتمحور لغة الحوار. الجواب ينبئنا بما سيكون، وما كان .. لا ينبئ بخير. التفاتة لأسماء المستجوبين للشيخ ناصر ووزرائه تخبرنا الكثير، نهجهم في تقصي الحقائق وطريقة وصولهم للاستجوابات يدلنا على نوعية «الرحالة»، وعلى تاريخ رحلتهم وعلى غاياتهم المنشودة.
بلا شك أريد استجوابات تحميني وتحمي بلدي من تعسف القادة «التنفيذيين».. أريد استجوابات تستهدف أفعالاً لا أشخاصاً، استجوابات تسقط سياسات لا رؤوسا، استجوابات تعدل أوضاعاً وتغير منهجية، لا تبدل غترا وشماغات..
تصيبنا الاستجوابات الحالية بتواليها الكريه بالغثيان الشديد، ونحن ندور في فلكها بصورة تبدو لا متناهية، فلا تكاد الحكومة تتشكل، بل حتى قبل أن تتشكل، حتى يبدأ التهديد والوعيد، ولاتزال الحكومات المشكلة ومجالس الأمة المنتخبة ومنذ خمس سنوات تدور في الحلقة نفسها، حتى حفظنا جميعاً خطوطها وتعرجاتها تماماً.
بتنا نتسلى مع كل تشكيل جديد بالتكهن حول أول استجواب وأول مستجوب، ثم نمرر الوقت بتخمين موعد الحل بعد أن نقرأ عشرات المقالات التي تعدد علينا خيارات رئيس مجلس الوزراء في التعامل مع الاستجوابات، ثم تطالبه في النهاية بالاستقالة. وقبل أن نتمكن من إفراغ معدتنا بعد توقف هذه اللعبة الدوارة، تبدأ دورة جديدة، فنحبس أنفاسنا، ونرد ريقنا إلى جوفنا وندور، ندور بشكل.. يثير الرثاء.
لا أدري ما هو الحل، فمشكلتنا ليست في أشخاص، ولكن في منهجية مريضة تعمل على «تدويخ» الناس وزغللة أبصارهم لتمرير المصالح من فوق الرؤوس المنحنية بغثيانها نحو الأرض. أود أن أتوقف لوهلة فأبلع ريقي وأنظر شيئاً يُبنى في بلدي، مشروعاً يتيما، أو تقدماً يُحرز على أي صعيد، أي تغيير ...أي خطوة خارج الحلقة المقيتة قبل أن تنهزم آمالنا ومحبتنا لبلدنا وثقتنا في نظامنا، ففي هذه الهزيمة نهايتنا.. جميعاً.
آخر شي
إخواننا اللبنانيين، ألم تتعبوا من الدوران في حلقتكم كذلك؟ تشكيل وزاري عسير، وبيان وزاري أعسر، ولا تكاد الأمور تستقر، حتى تتعكر.. أعانكم الخالق ويانا، وخلصنا ممن تعرفون ونعرف.