منذ «حادثة» زيارة الدكتور نصر حامد أبوزيد للكويت وأنا أفكر كثيراً في تلك الضغوط الرهيبة التي يعانيها «المنبوذون»، والتي لم أشعر بوهجها من قبل إلا عندما اقتربت تلك الضغوط، متعدية مساحة الأمان التي تحوطني. منذ زمن، منذ بدأت أكتب وأتحدث علانية عن آرائي، بدأت دائرة مساحة الأمان من حولي بالتقلص، لم يعد مسموحاً لي أن أتمتع بكثير من الأمان والخصوصية النفسيين، فلإعلان الرأي و«فرضه» على الجمهور ثمن ندفعه من دائرة المساحة الآمنة. كلما أعلنّا رأياً، صغُرت مساحة الأمان والخصوصية من حولنا، والتي «يحتلها» الجمهور القارئ أو المستمع بآرائه أو انتقاداته وأحياناً تجريحه، وهذا والله ثمن مستحق لعرض وأحياناً «فرض» آرائنا مكتوبة ومسموعة من دون استئذان. لكن تبقى الضغوط تتحلق دوائر سوداء في القلب وحول العيون، ويبقى القلق على المساحة الآمنة مسيطراً حيث يجد الكاتب أن ثمن المحافظة على دائرة أمانه لا بد أن يُستقطع من الكلمة التي يكتبها، وتلك -والله- عزيزة لا يمكن الاختيار بينها وبين الأمان وراحة البال، فحرية الكلمة تتفوق دوماً وتنتصر في هذا الصراع المستمر. أفكر كثيراً، منذ «حادثة الزيارة» في هذا الثمن الذي يدفعه الدكتور أبوزيد طواعية مقابل حرية كلمته، أتأسى تحديداً للتقلص الشديد لدائرة أمانه التي أصبحت شبه منعدمة، وهو يدفع من مساحتها غرامة كلمته التي تحلّق على ارتفاعات غير مسبوقة، وازداد قلقي الأناني عندما وصلت «طرطشة» الحدث لدائرتي ساعية إلى تقليصها. فما إن أتممنا الندوة المساندة للدكتور «أبوزيد» في الجمعية الثقافية النسائية، حتى انهالت الرسائل والتعليقات مؤنّبة، موبخة وأحياناً مجرّحة لموقفي وزملائي المساند حتى كادت دائرة أماني تطبق على أنفاسي، من شدة ما تقلصت هذه الفترة. تعودت أنا منذ زمن على تمدد وانكماش دائرة الأمان هذه حسب الظروف و«طولة اللسان»، ولم يعد الأمر مؤلماً لكنه -بلا شك- لا يخلو من لسعة، فعندما تكون هناك أغلبية ساخطة على رأيك، تشعر بانعزال قوي عن المجتمع وبوحدة غريبة حتى وأنت بين ألف شخص، وببرودة تخترق عظمك حتى وأنت مغطى بألف لحاف. أفكر في الدكتور «أبوزيد» وأحدّث نفسي أنه إذا كانت الطرطشة الخفيفة جداً تلك قد عزلتني، ولو لوهلة وغرّبتني عن ناسي، فما يفعل تسونامي الغضب في الدكتور؟ كيف تراه يدفع هذا الثمن كل يوم؟ وما هو الوازع الذي يسهل عليه أن يمد يده الى دائرة أمانه كل يوم، فيستقطع منها ثمن أفكاره الباهظة باختلافها؟ لست الآن بصدد الدفاع عن أفكار الدكتور، تبقى أفكاره «أفكاراً» ستلاقي القبول والرفض، وتتلقى الاستحسان والاستنكار ككل الأفكار الأخرى في الدنيا، البشرية منها واللاهوتية كذلك، حيث لم يجتمع البشر جميعاً على فكرة موحدة منذ بدأ الخليقة سوى حول فكرة...الموت. وعليه، فصحة أو بطلان رأي الدكتور ليسا مقياساً يحدد حقه في التعبير، وذلك ببساطه لأن الصحة والبطلان ليسا قاطعين، ولن يكونا في يوم من الأيام حول أي من شؤون الدين والدنيا عند البشر. وعليه أنا لا أدافع عن الدكتور لأنني أتفق معه في الرأي، وإن كنت أفعل حول كثير من آرائه، لكنني أدافع عنه وحقه في التعبير لسبب أنانيّ بحت، فأنا أريد أن أضمن حقي في التعبير كذلك، ببساطة شديدة أنا «أشيمه» بقبول رأيه حتى ينحرج ويفسح المجال لرأيي في المستقبل، وهذه جملة مجازية بكل معنى الكلمة، فلا أنا سأكتب شيئاً سيلفت نظر الدكتور بحثياً، ولا هو سيحتاج تشييماً أو سيسعى يوماً للحجر على رأيي. ولكن تلك هي الطريقة الوحيدة الممكنة لتعايش البشر من دون صراع أو عنف، لا بد من إفساح مجال كريم جداً لحرية الرأي، وتلك فكرة أوسع وأخطر وأهم من مجرد كونها فكرة حضارية للمجتمعات المتقدمة، هي فكرة «لحفظ النوع» ولاستمرارنا كبشر، وإلا سنتذابح الى أن نقضي على بعضنا، كما اقتربنا من أن نفعل على مدى تواريخ مظلمة من عصورنا البشرية. وأنوه هنا بأن الدكتور أبوزيد كتب مقالاً بعنوان «العقلانية العوراء والليبرالية العرجاء» في «المصري اليوم» بتاريخ 30/7/2006، جاء صادماً لي وجارحاً لمشاعري إن كان للمشاعر مكان في تكوين وعرض الرأي. فقد وقف الدكتور موقفاً مؤيداً لحزب الله، وناقداً بل ناقماً على الليبراليين الذين انتقدوا الحزب وأمينه العام، بدرجة أوجعت قلبي وعقلي، خصوصاً وهو يختم مقاله قائلاً «ألا ساءت عقلانياتكم ،وسحقاً لليبراليتكم، والنصر للمقاومة»، إلا أنني احتفظت بوجعي لنفسي واحترمت الرأي وأنا «أصرّ» على أسناني صريراً مرتفعاً. فقانون الطبيعة يقول إننا سنختلف حتماً مع من نتوقع الاتفاق الدائم معهم، وسنتفق يوماً مع من نعتقد الاختلاف المحتدم معهم، لذا، لن يفصل بيننا ويحدد طبيعة راقية وإنسانية لعلاقاتنا سوى الإفساح لأكبر قدر من حرية التعبير عن الرأي لا يحده أو يصده سوى التعرض لأمن الإنسان الجسدي، أو لأمان بلده القومي. ومع ذلك، فكتابات سيد قطب التحريضية التي أعتقدها تهديدا حقيقيا لأمن «الآخر» المختلف عن تفكير سيد قطب، لاتزال تجد مكانها عندي وعند كل مؤمن حقيقي بحرية الرأي، وهذا الإفساح ليس «كرم أخلاق» منا ولكنه رغبة حقيقية في التعايش وحفظ النوع، كما أوردت سابقاً.
ومن هنا، أنوه كذلك إلى أن فكرة بشرية القرآن التي تقوّلوا بها على الدكتور ليست صحيحة أبداً، وإنما، كعادتنا، تنتقل سمعياً بيننا من دون أن يكلف أحد نفسه فتح كتاب والتأكد من النص المكتوب، فالدكتور تحدث عن كون القرآن، النص الإلهي الذي لا يمكن إنكاره أبداً، كما يؤكد هو، يتحول بعد فترة من التداول البشري تفسيراً وتأويلاً، إلى نص يحمل في طياته معاني بشرية كذلك، فمثلاً، الآية القرآنية التي تتحدث عما في الأرحام تعرضت لتفاسير مختلفة على مر العصور، حتى أصبح فحواها بشرياً يختلف باختلاف الأزمنة، وإن كان نص الجملة نفسه إلهيا. طبعاً، قد يقرأ آخر هذه الدراسة النقدية ويستقبلها على أنها إشارة الى بشرية النص القرآني، وهذا مربط الفرس، نحن نختلف في فهمنا للآراء وفي توافقنا معها وفي قراءة نوايا كتّابها، إن صح لنا إجراء مثل هذه القراءة، ولذا، يجب ألا تكون هناك «لجنة تحكيم» تقضي بصحة هذا الرأي، أو بوجوب قتل صاحب ذاك الرأي. لا يمكن -لسبب إنساني خالص في بساطته- تشكيل مثل هذه اللجنة، لأننا سنختلف رغم الأنوف المقدسة لأعضاء اللجنة، وسنستحسن ونستاء ونسعى للمعلومة التي تقصيها تلك اللجنة «الإلهية»، فنتضارب ونتناحر الى أن نفنى أو تتحرر الكلمة. من هنا، أعيد قولي، إن «نوعية» رأي الدكتور ليست عاملاً في تحديد حريته في إبداء هذا الرأي، فللرأي ذاته قداسة لا يمكن تخطيها إلا اذا هددت الحياة الفعلية لإنسان آخر أو هددت السلامة القومية السياسية لبلد ما، باتخاذها منحى إرهابيا، مع الحرص الشديد على تعريف الإرهاب وتضييق حدوده لمصلحة أقصى درجات حرية الرأي. إذن فليكن رأي الدكتور ما يكون، أنجع طرق قطع الطريق على آرائه هو تفنيدها ومحاورتها واستنزاف قدرتها على الإقناع، وليس بعزلها وسجنها حتى ليسعى كل ذي علم أو فضول للاطلاع عليها ونشرها سراً، فتُلبَس ثوب كفر أو قداسة قد لا تستحق تلك الآراء أياً منهما. كنت أتمنى رؤية الدكتور وجهاً لوجه لمحاورته في موضوع حزب الله، ليتسنى لي أن «أنفّس غيظي» تفنيداً ونقاشاً وليس إهانة وتنكيلاً بزائر يحضر هو بنفسه الى «داري». حُرمنا جميعاً من هذه الفرصة، فرصة محاورة الدكتور وتفنيد آرائه والرد عليها، استحساناً أو انتقاداً، حتى يزول عنها «وهج» السرية الذي يجعلها تبدو وكأنها حقائق يريد «أولو الأمر» إخفاءها عنا لكونها مجرد آراء تحتمل الخطأ والصواب. كنت أتمنى هذه الفرصة، لكن ...لعن الله الجُبن والجهل اللذين أعادا الدكتور سالماً بآرائه، وأبقيانا في ظلام النميمة و«الإشاعات الفكرية» التي لا نكلف أنفسنا حتى التأكد من صحتها، فضلاً عن مناقشة أصحابها فيها، ألا لعن الله الجُبن والجهل.
ومن هنا، أنوه كذلك إلى أن فكرة بشرية القرآن التي تقوّلوا بها على الدكتور ليست صحيحة أبداً، وإنما، كعادتنا، تنتقل سمعياً بيننا من دون أن يكلف أحد نفسه فتح كتاب والتأكد من النص المكتوب، فالدكتور تحدث عن كون القرآن، النص الإلهي الذي لا يمكن إنكاره أبداً، كما يؤكد هو، يتحول بعد فترة من التداول البشري تفسيراً وتأويلاً، إلى نص يحمل في طياته معاني بشرية كذلك، فمثلاً، الآية القرآنية التي تتحدث عما في الأرحام تعرضت لتفاسير مختلفة على مر العصور، حتى أصبح فحواها بشرياً يختلف باختلاف الأزمنة، وإن كان نص الجملة نفسه إلهيا. طبعاً، قد يقرأ آخر هذه الدراسة النقدية ويستقبلها على أنها إشارة الى بشرية النص القرآني، وهذا مربط الفرس، نحن نختلف في فهمنا للآراء وفي توافقنا معها وفي قراءة نوايا كتّابها، إن صح لنا إجراء مثل هذه القراءة، ولذا، يجب ألا تكون هناك «لجنة تحكيم» تقضي بصحة هذا الرأي، أو بوجوب قتل صاحب ذاك الرأي. لا يمكن -لسبب إنساني خالص في بساطته- تشكيل مثل هذه اللجنة، لأننا سنختلف رغم الأنوف المقدسة لأعضاء اللجنة، وسنستحسن ونستاء ونسعى للمعلومة التي تقصيها تلك اللجنة «الإلهية»، فنتضارب ونتناحر الى أن نفنى أو تتحرر الكلمة. من هنا، أعيد قولي، إن «نوعية» رأي الدكتور ليست عاملاً في تحديد حريته في إبداء هذا الرأي، فللرأي ذاته قداسة لا يمكن تخطيها إلا اذا هددت الحياة الفعلية لإنسان آخر أو هددت السلامة القومية السياسية لبلد ما، باتخاذها منحى إرهابيا، مع الحرص الشديد على تعريف الإرهاب وتضييق حدوده لمصلحة أقصى درجات حرية الرأي. إذن فليكن رأي الدكتور ما يكون، أنجع طرق قطع الطريق على آرائه هو تفنيدها ومحاورتها واستنزاف قدرتها على الإقناع، وليس بعزلها وسجنها حتى ليسعى كل ذي علم أو فضول للاطلاع عليها ونشرها سراً، فتُلبَس ثوب كفر أو قداسة قد لا تستحق تلك الآراء أياً منهما. كنت أتمنى رؤية الدكتور وجهاً لوجه لمحاورته في موضوع حزب الله، ليتسنى لي أن «أنفّس غيظي» تفنيداً ونقاشاً وليس إهانة وتنكيلاً بزائر يحضر هو بنفسه الى «داري». حُرمنا جميعاً من هذه الفرصة، فرصة محاورة الدكتور وتفنيد آرائه والرد عليها، استحساناً أو انتقاداً، حتى يزول عنها «وهج» السرية الذي يجعلها تبدو وكأنها حقائق يريد «أولو الأمر» إخفاءها عنا لكونها مجرد آراء تحتمل الخطأ والصواب. كنت أتمنى هذه الفرصة، لكن ...لعن الله الجُبن والجهل اللذين أعادا الدكتور سالماً بآرائه، وأبقيانا في ظلام النميمة و«الإشاعات الفكرية» التي لا نكلف أنفسنا حتى التأكد من صحتها، فضلاً عن مناقشة أصحابها فيها، ألا لعن الله الجُبن والجهل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق