الجمعة، 29 يناير 2010

ومن الحب ما قتل

في رحلة لبرشلونة الشتاء الماضي، قايضت زوجي حضور مباراة كرة قدم معه، مقابل أن يحضر هو حفل أوبرا معي، وكانت التجربتان رائعتين بحق.. وكنت الرابحة الكبرى بلا شك في هذه المقايضة. في البداية كنت متأففة من حضور مباراة رياضية لم تستقطب اهتمامي يوماً، وكل ما يتعلق في ذهني حول كرة القدم، هو تعليق والدي الطريف الذي يتساءل من خلاله: لم يركض كل هؤلاء الرجال الكبار خلف كرة يتيمة، ألا يشتري كل منهم كرته الخاصة و«يفكونا»؟.. إلا أنني، وحال اقترابي وزوجي من ملعب برشلونة الضخم، انتابتني حالة من التحفز والانسجام لم أعتقد أن تثيرها فيّ رياضة يوماً ما. تلاشينا أنا وزوجي وسط زحام أخاذ، أصبحنا جزءاً من كتلة قبلتها الملعب الأخضر، جزيئات متجانسة في بحر بشري ضخم يهتف كله للاعبيه تشجيعاً أو زجراً.
أخذت التجربة عليّ كل حواسي، عاجزة عن فهم كيف يمكن للآلاف المؤلفة الحاضرة للمباراة أن تندمج اتفاقاً، وتتفق اندماجاً، على التشجيع غناء أحياناً، وتأوهاً أحياناً أخرى، أن تتجاوب بألفية بشرية، أن تتماوج كبحر شاسع متوافق، فيقف المشجعون رافعين أيديهم، ثم يجلسون ليقف جيرانهم معلقين أيديهم في الهواء، مكونين موجة بشرية ضخمة بديعة الألوان، الموجة الوحيدة التي لها صوت بشري متناغم. من وقتها وقعت في غرام كرة القدم، مؤكدة لزوجي، وعن صدق اعتقاد مني، أن الطائفية والطبقية وغيرها من الخلافات التي قسمتنا على بعض ككويتيين، يمكن تجاوزها بفريق كرة قدم. نعم، فبعدما فشلت كل النداءات بالوحدة الوطنية والتحذيرات من خطورة انقساماتنا في صنع موجة كويتية متجانسة، يبقى الأمل في كرة القدم.. ستصنع الكرة، حسب ما كنت أعتقد، هذه الموجة بكل تأكيد.
ولكن، يبدو أن موجتنا عاتية متخبطة لا تبقي ولا تذر، حتى أنها قذفت بي على شاطئ اللامبالاة الرياضية الذي كنت عليه قبل زيارة برشلونة. لا أجد ما يثيرني في رياضة كرة القدم العربية سوى تساؤلات مريرة لا تمت للرياضة بصلة.. أن ما الذي يحدث لكرة القدم الكويتية تحديدا، والعربية عموماً، فيحولها من مباريات ترفيهية، وتمثيل وطني عالي المستوى، إلى حروب أهلية داخلية أو إقليمية ضارية؟
مما لا شك فيه أن الحساسيات التي يثيرها التنافس الرياضي، هي حساسيات طبيعية ومتلازمة لكل شعوب الأوطان المتنافسة، ولكنها تبقى حساسيات «شعبية» نتائجها تصب في اتجاه تعزيز الوطنية من دون الدخول في صراعات سياسية. إلا أن «الموضة» دائماً مختلفة عندنا، فنحن نستورد الفكرة، ونعيد تصنيعها بأبخس الأثمان، وبأرخص «العقول» العاملة. وها هي كرة القدم اليوم سبب لأزمة سياسية بين مصر والجزائر، وأزمة برلمانية في الكويت، وأصبحت الرياضة التي كانت لتمثل واجهة وطنية، جبهة صراع محلي وإقليمي. لماذا نشوه كل فكرة حلوة ونخرب كل توجه مفيد؟ نبالغ نحن في كل ما نستورد، نشتري مساحيق التجميل من مصنعيها الذين بالكاد ترى آثارها على وجوههم، ونلطخ بها وجوهنا، نستجلب الأزياء التي تُلبس برقة وتناغم، لنكومها على أجسادنا لاستعراض «الي على الحبل كله». نستورد العلمانية فنمحورها إلى دكتاتورية، نستلف الليبرالية «فنطوفها» في طوائف و«ندينها» تحت أديان، حتى تفرغ من محتواها، وتمسي مسخاً تحت مطارق إعمال «عقولنا» فيها. لمَ تعادي العقلية العربية نفسها؟ لمَ نسير بانتظام صارم نحو هلاكنا ونهاية أمتنا؟ لمَ نبالغ في كل ردود أفعالنا وفي كل ممارساتنا وفي كل أحاديثنا وحواراتنا؟
قد يكون أحد أهم أسباب «عداء النفس» هذا، هو أننا نرزح تحت ضغوط محلية وإقليمية شديدة، فمن قمع للرأي والحريات، إلى فقر وجهل وأنيميا شديدة في العلم والتصنيع والكتابة والترجمة، إلى بيروقراطية تسحق كرامة أشد الناس صبراً، إلى أدلجة دينية خطيرة تجعل الإنسان العربي في قلق دائم، رازحاً تحت مشاعر قاسية من تأنيب الضمير، إلى أنظمة حكم مستوردة من العصور المظلمة، والقائمة تطول.. كل تلك الأسباب تجعلنا بحاجة مستمرة لأفيون للمشاعر، لمساحة للتنفيس، ومن أجل هذا الغرض النفسي المهم، يبدو لي أن أنظمتنا صنعت، مشكورة، فرق كرة قدم مخصصة لتنفيس المواطنين، مضحية في الوقت ذاته بمستقبل الرياضة في بلدانها، وبمستقبل أفراد الفريق وراحتهم واستقرار حياتهم التي تهدر في صراعات سياسية، وتختتم بإهمال وضحالة في التكريم. فبينما تتقدم صفوف «العالم الأول» حثيثاً للأمام، وبينما يرزح إقليمنا تحت ثقل مشكلات طائفية وايديولوجية وطبقية ومادية وعلمية وسياسية بالغة الخطورة، نبقى نحن، الشعب المغدور، «نهس هسيس» البالون المنفوخ، الذي يقل تورمه بالسماح لبعض من هوائه الفاسد بالهروب في كل مباراة «حماسية» بين شعوب «أبناء الوطن العربي الكبير». إنها مؤامرة لتلهينا وتشغلنا بخلافات جانبية تعمل على «ثقب» بالوناتنا حتى نبقى في نهاية اليوم كقطع مطاطية خاوية يسيل على فمها اللعاب اللزج.
مؤسف ما يحدث للرياضة الكويتية، ومؤسف، ونوعاً ما مثير للضحك، ما يحدث بين سفارتي الدولتين الشقيقتين، مصر والجزائر، على إثر مباريات «رياضية» قوامها حسن الخلق، وضبط النفس، واحترام الآخر. لكننا نبقى نحن... حيث يبدو أنه لم يبق لنا طريق لم ندمره، وممر لم نختلف عليه، وحوار لم نشوهه، وصولاً إلى ذاك الخاص بالرياضة، وها نحن نقتلها من «شدة الحب».. ألا حفظنا الله وإياكم من الحب العربي، والحماسة الإقليمية.

هناك تعليق واحد: