يقول الشاعر محمود درويش:
«ما قيمة الإنسان
بلا وطن
بلا علم
ودونما عنوان
ما قيمة الإنسان».
قد لا يكون هناك موضوع أهم وأكثر إلحاحاً على الساحة المحلية حالياً من موضوع «البدون»، الذي لا «تلحّ» فيه مطالب إنسانية أساسية فقط، ولكن ضرورات أمنية على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي كذلك. «البدون» ليست مشكلة كويتية خاصة، فمحاولة البعض إيجاد منفذ للكويت للتنصل من واجباتها الإنسانية تجاه هذه الفئة ستنعكس بكل تأكيد على الساحة الإقليمية والعالمية، فهؤلاء البشر لن يتبخروا في الهواء، سيتفرقون في الأرض لمحاولة التعايش في أماكن أخرى تكون أكثر رأفة بإنسانيتهم واحتراماً لوجودهم البشري، وفي تفرقهم سيحملون معهم ذكريات مؤلمة وتجارب قاسية، وفقر تعليمي، وصحي، ويمكن كذلك أخلاقي، اختيرت كلها لهم قسراً، ولم يختاروها لأنفسهم أبداً.
ولا بد من أن أعترف هنا أن مكان «الحقيقة» في الغالب يكون «وسطياً»، مع التحفظ الشديد على وجود «حقيقة»، أو على توافر تعريف واضح لها أساساً. حقيقة وضع البدون واستحقاقاتهم، تحكمها منطلقات بحت إنسانية بالنسبة إلي، لا تدخل فيها الحسبة السياسية. وقد تكون تلك سذاجة حقوقية يقابلها لؤم سياسي يرعى المصالح من دون وزن «للإنسانيات» في تلك الحسبة، وقد تكون الحقيقة هي في مكان وسط بين السذاجة الحقوقية واللؤم أو التمصلح السياسيين، وقد يكون وجود كلا الطرفين؛ الحقوقيين السذج والسياسيين اللئام، ضروري لإبراز وجهتي النظر المتناظرتين، وبالتالي لتحييد الرأي الأخير، وتقويم الوضع وتعيير المعادلة الإنسانية السياسية.
من هذا الاعتراف أنطلق بحرية «حقوقية إنسانية» لتأكيد كويتية معظم البدون، مهما كانت أصولهم، ومن حيثما حلوا.
هناك أقلية مخادعة بلا أدنى شك، والفئات المخادعة هي جزء لا يتجزأ من تركيبة أي مؤسسة إنسانية على أرض الخليقة، ولكن الغالبية العظمى من البدون لم يعرفوا أرضاً، ولا وطناً، إلا الكويت. لم يتعلموا إلا في مدارسها، ولم يشربوا إلا ماءها، ولم يتبضعوا إلا في أسواقها، ولم يتنفسوا إلا هواءها، فإذا لم تكن تلك هي المواطنة، فماذا عساها تكون إذن؟ تدحرج الزمن وتعاقبت أجيال من البدون على أرض الكويت، ولو كان الآباء الأوائل للبعض قد أخفى أو تخلص من جنسية من أجل البقاء في الكويت، فما ذنب الأبناء والأحفاد الذين لم يعرفوا أرضاً غير هذه الأرض، يتكلمون لهجتها ويستخدمون خدماتها ويسهمون في اقتصادها، ولو من خلال مشترياتهم الحياتية اليومية البسيطة، حتى يحرموا من ورقة ثبوتية تضمن حقهم الإنساني في الانتماء؟
«منهم حرامية ومخادعون، بل ومتعاونون مع الجيش العراقي إبان الغزو».. وأقول أطلقوا أصابعكم في اتجاه مجموعة إنسانية، ليس بينها أشرار أو خونة. فالبعض من البدون كذلك، ليس لأنهم «بدون»، ولكن لأنهم بشر يتماثلون مع بقية الستة مليارات على سطح الأرض في تقلبهم بين الخير والشر.
«منهم من أتى متعمداً لأرض الكويت ليتحصل على جنسيتها ويستفيد من خدماتها وثرائها».. وأقول، وكم من العوائل الكويتية تقرر استقبال مواليدها على أراض أوروبية أو أميركية لاستخراج شهادة ميلاد توفر خدمات لأبنائها على الأرض الأجنبية، وتكون سنداً لهم إذا أغبرّ الزمن وتعكر؟
وماذا نقول في الكويتيين الذين هاجروا من أرضنا ليدرسوا ويعملوا، ثم يستقروا في الخارج ويصبحوا مواطني أراض جديدة؟ هل هم خونة أم أن ظروف حياتهم قادتهم لأوطان أخرى كانت أرحم بهم، وأكثر كرماً في توفير الفرص لهم؟ وهنا نصل للسؤال الأهم: ما هو الوطن؟ أرض نعيش عليها؟ نحبها؟ نتمتع بخدماتها من دون أن نحبها، نتمتع بخدماتها ونحن نهيم بها حباً وامتناناً؟ هل كل الكويتيين ممتنون ومحبون؟ ما هو الفاصل في مواطنتهم؟ إن كان الفاصل ورقة أو تاريخا أو جدا لجد، فتلك حسبة إنسانية ضائعة وهزيلة، وإن كانت معايشة واستفادة مقايضة خدماتية واقتصادية، فتلك حسبة أكثر عدلاً، وإن كانت حباً وهياماً وبذلاً، فتلك حسبة مثالية ليتنا كلنا نرقى لها.
نحن بشر، نسعى لتأمين مصالحنا وتسهيل سبل معيشتنا، ليس في ذلك ما يعيب، ويبقى قيد النظر أمر الموازنة بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة، والتي تستمر في الواقع أزمة فلسفية أخلاقية على مدى الحياة البشرية. نعم، لا بد من حل إنساني للمشكلة، لكنه يبقى حلا مؤقتا، ضمادة على الجرح، نحتاج لحل دائم، دواء ناجع يشفي الجرح ويقضي على الألم. لا بد من تسوية وضع الجميع، تجنيس المستحقين، بل والمشتبه في استحقاقهم للجنسية، فتجنيس مئات الأشخاص الذين قد لا يكتمل استحقاقهم (مع صعوبة تعريف الاستحقاق كما أوردت سابقاً)، خير ألف مرة من حرمان شخص واحد يستحق، ويذهب حقه أدراج رياح التشدد والمغالاة.
البدون يعيشون بيننا، يتنفسون هواءنا، يحبون البلد، ويغضبون عليه، تماما كما يفعل الكويتيون، ليس عليهم واجب إظهار امتنان ومذلة لإثبات وطنيتهم، من حقهم أن يغضبوا وينتقدوا، حيث يبقى الإخلاص في العمل من أجل الوطن هو المعيار الحقيقي للفصل بين الجميع.
قد يبدو هذا الحديث ساذجاً ضعيفاً، وهو يصطدم بصراخ البعض من نوابنا وسياسيينا الذين يولولون على الهوية الوطنية غير مدركين، أو قد يكونون في الواقع مدركين، بأنهم يخنقون الهوية الوطنية، ويضيقون الخناق حول مفاهيمها ويحولونها إلى عنصرية بغيضة، وقسوة وحشية، هي ليست من الكويتية، أو الإنسانية، بشيء. سمعتها من قبل كثيراً: هذه نظرة ساذجة بسيطة لا يمكن أن تشكل حلاً رئيساً لأزمة سياسية مؤسسية في عالم اليوم الذي تتقدم فيه المصالح على الحقوق، وأقول، بل هي تذكير بالجانب الإنساني الحقوقي الذي كثيراً ما يتناساه السياسيون وهم يلمعون صورهم ويخططون مصالحهم على حساب كويتيين.. بدون.
«ما قيمة الإنسان
بلا وطن
بلا علم
ودونما عنوان
ما قيمة الإنسان».
قد لا يكون هناك موضوع أهم وأكثر إلحاحاً على الساحة المحلية حالياً من موضوع «البدون»، الذي لا «تلحّ» فيه مطالب إنسانية أساسية فقط، ولكن ضرورات أمنية على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي كذلك. «البدون» ليست مشكلة كويتية خاصة، فمحاولة البعض إيجاد منفذ للكويت للتنصل من واجباتها الإنسانية تجاه هذه الفئة ستنعكس بكل تأكيد على الساحة الإقليمية والعالمية، فهؤلاء البشر لن يتبخروا في الهواء، سيتفرقون في الأرض لمحاولة التعايش في أماكن أخرى تكون أكثر رأفة بإنسانيتهم واحتراماً لوجودهم البشري، وفي تفرقهم سيحملون معهم ذكريات مؤلمة وتجارب قاسية، وفقر تعليمي، وصحي، ويمكن كذلك أخلاقي، اختيرت كلها لهم قسراً، ولم يختاروها لأنفسهم أبداً.
ولا بد من أن أعترف هنا أن مكان «الحقيقة» في الغالب يكون «وسطياً»، مع التحفظ الشديد على وجود «حقيقة»، أو على توافر تعريف واضح لها أساساً. حقيقة وضع البدون واستحقاقاتهم، تحكمها منطلقات بحت إنسانية بالنسبة إلي، لا تدخل فيها الحسبة السياسية. وقد تكون تلك سذاجة حقوقية يقابلها لؤم سياسي يرعى المصالح من دون وزن «للإنسانيات» في تلك الحسبة، وقد تكون الحقيقة هي في مكان وسط بين السذاجة الحقوقية واللؤم أو التمصلح السياسيين، وقد يكون وجود كلا الطرفين؛ الحقوقيين السذج والسياسيين اللئام، ضروري لإبراز وجهتي النظر المتناظرتين، وبالتالي لتحييد الرأي الأخير، وتقويم الوضع وتعيير المعادلة الإنسانية السياسية.
من هذا الاعتراف أنطلق بحرية «حقوقية إنسانية» لتأكيد كويتية معظم البدون، مهما كانت أصولهم، ومن حيثما حلوا.
هناك أقلية مخادعة بلا أدنى شك، والفئات المخادعة هي جزء لا يتجزأ من تركيبة أي مؤسسة إنسانية على أرض الخليقة، ولكن الغالبية العظمى من البدون لم يعرفوا أرضاً، ولا وطناً، إلا الكويت. لم يتعلموا إلا في مدارسها، ولم يشربوا إلا ماءها، ولم يتبضعوا إلا في أسواقها، ولم يتنفسوا إلا هواءها، فإذا لم تكن تلك هي المواطنة، فماذا عساها تكون إذن؟ تدحرج الزمن وتعاقبت أجيال من البدون على أرض الكويت، ولو كان الآباء الأوائل للبعض قد أخفى أو تخلص من جنسية من أجل البقاء في الكويت، فما ذنب الأبناء والأحفاد الذين لم يعرفوا أرضاً غير هذه الأرض، يتكلمون لهجتها ويستخدمون خدماتها ويسهمون في اقتصادها، ولو من خلال مشترياتهم الحياتية اليومية البسيطة، حتى يحرموا من ورقة ثبوتية تضمن حقهم الإنساني في الانتماء؟
«منهم حرامية ومخادعون، بل ومتعاونون مع الجيش العراقي إبان الغزو».. وأقول أطلقوا أصابعكم في اتجاه مجموعة إنسانية، ليس بينها أشرار أو خونة. فالبعض من البدون كذلك، ليس لأنهم «بدون»، ولكن لأنهم بشر يتماثلون مع بقية الستة مليارات على سطح الأرض في تقلبهم بين الخير والشر.
«منهم من أتى متعمداً لأرض الكويت ليتحصل على جنسيتها ويستفيد من خدماتها وثرائها».. وأقول، وكم من العوائل الكويتية تقرر استقبال مواليدها على أراض أوروبية أو أميركية لاستخراج شهادة ميلاد توفر خدمات لأبنائها على الأرض الأجنبية، وتكون سنداً لهم إذا أغبرّ الزمن وتعكر؟
وماذا نقول في الكويتيين الذين هاجروا من أرضنا ليدرسوا ويعملوا، ثم يستقروا في الخارج ويصبحوا مواطني أراض جديدة؟ هل هم خونة أم أن ظروف حياتهم قادتهم لأوطان أخرى كانت أرحم بهم، وأكثر كرماً في توفير الفرص لهم؟ وهنا نصل للسؤال الأهم: ما هو الوطن؟ أرض نعيش عليها؟ نحبها؟ نتمتع بخدماتها من دون أن نحبها، نتمتع بخدماتها ونحن نهيم بها حباً وامتناناً؟ هل كل الكويتيين ممتنون ومحبون؟ ما هو الفاصل في مواطنتهم؟ إن كان الفاصل ورقة أو تاريخا أو جدا لجد، فتلك حسبة إنسانية ضائعة وهزيلة، وإن كانت معايشة واستفادة مقايضة خدماتية واقتصادية، فتلك حسبة أكثر عدلاً، وإن كانت حباً وهياماً وبذلاً، فتلك حسبة مثالية ليتنا كلنا نرقى لها.
نحن بشر، نسعى لتأمين مصالحنا وتسهيل سبل معيشتنا، ليس في ذلك ما يعيب، ويبقى قيد النظر أمر الموازنة بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة، والتي تستمر في الواقع أزمة فلسفية أخلاقية على مدى الحياة البشرية. نعم، لا بد من حل إنساني للمشكلة، لكنه يبقى حلا مؤقتا، ضمادة على الجرح، نحتاج لحل دائم، دواء ناجع يشفي الجرح ويقضي على الألم. لا بد من تسوية وضع الجميع، تجنيس المستحقين، بل والمشتبه في استحقاقهم للجنسية، فتجنيس مئات الأشخاص الذين قد لا يكتمل استحقاقهم (مع صعوبة تعريف الاستحقاق كما أوردت سابقاً)، خير ألف مرة من حرمان شخص واحد يستحق، ويذهب حقه أدراج رياح التشدد والمغالاة.
البدون يعيشون بيننا، يتنفسون هواءنا، يحبون البلد، ويغضبون عليه، تماما كما يفعل الكويتيون، ليس عليهم واجب إظهار امتنان ومذلة لإثبات وطنيتهم، من حقهم أن يغضبوا وينتقدوا، حيث يبقى الإخلاص في العمل من أجل الوطن هو المعيار الحقيقي للفصل بين الجميع.
قد يبدو هذا الحديث ساذجاً ضعيفاً، وهو يصطدم بصراخ البعض من نوابنا وسياسيينا الذين يولولون على الهوية الوطنية غير مدركين، أو قد يكونون في الواقع مدركين، بأنهم يخنقون الهوية الوطنية، ويضيقون الخناق حول مفاهيمها ويحولونها إلى عنصرية بغيضة، وقسوة وحشية، هي ليست من الكويتية، أو الإنسانية، بشيء. سمعتها من قبل كثيراً: هذه نظرة ساذجة بسيطة لا يمكن أن تشكل حلاً رئيساً لأزمة سياسية مؤسسية في عالم اليوم الذي تتقدم فيه المصالح على الحقوق، وأقول، بل هي تذكير بالجانب الإنساني الحقوقي الذي كثيراً ما يتناساه السياسيون وهم يلمعون صورهم ويخططون مصالحهم على حساب كويتيين.. بدون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق