«وتمر السنون مثل الثواني
عندها تصبح القيود انعتاقاً
وانطلاقاً إلى عزيز الأماني»..
غازي القصيبي
أكتب لكم وأنا على أعتاب حفلة ياسمين، وردتي عمرها اليوم ثماني سنوات، ثماني سنوات مفعمة، كل دقيقة رشرشتها ياسمينة بقبلات الطفولة المبللة، بدموع دلع أحلى من العسل، بطبعات أصابعها اللزجة على شبابيك البيت، بقايا الشكولاته على مكتبي، شخابيطها تسربها على أوراق عملي، سنوات لن يكون مثلها في حياتي بعد أبداً. أتطلع في وجهها وأنا أجوب أطراف بيتي الصغير، لأضيف لمسات طفولية تخفف من آثار «الكبار» الذين يعيشون فيه، من صرامتهم وجمود تحَفهم وجدية معلقاتهم ولوحاتهم.
أغطي هذه اللوحة لامرأة جميلة حزينة على حائط غرفة الطعام، بصورة طفولية لأراجوز مطبوع أسفله بحروف ملونة صارخة «عيد ميلاد سعيد يا ياسمين». أزيل هذه «الفازة» الباهظة الثمن التي استلمناها هدية منزلنا الجديد، وأضع مكانها باقة ورود ورقية صنعتها ياسمين بنفسها قبل يومين، استعداداً للحدث الكبير المهم. أملأ السقف المغطى بديكور رتيب وممل ببالونات طائرة ملونة تحلق في سماء البيت الصغير. يقفز قلبي فرحاً وأنا أتذكر أعياد ميلادي. أتذكر التاج الأبيض الذي أصررت أن ألبسه في ميلادي الثامن، والفستان الأبيض «يدور ويدور»، وهو تعبير تفهمه الصغيرات فقط، لأنني أميرة، ولأنني جميلة، ولأنني أهم إنسانة في الدنيا.
يا لزخم براءتنا ونحن نعتقد أننا أميرات، وأننا محور الدنيا، ونحن نعبث في سنوات طفولتنا النقية الخلابة. أنظر لياسمين من طرف عيني، تركض هنا وهناك، تسهم في إعداد الطعام بطبعات أصابعها على قالب الكيك، «تعصّب» على طلال، أخيها الكبير، لأنه يغيظها ويعايرها بأنها «بيبي» لا تستطيع قيادة السيارة مثله. تركض إلى حضن أختها صفاء، وتصر أن تراجع معها المسابقات التي سيلعبانها مع ضيوفهما المهمين.
ديني ودنياي أنتم يا صغار، فرحتي وزوغ قلبي، جنتي ونار روحي، مع كل واحد منكم أعيش سنوات طفولتي الخلابة، في كل عيد ميلاد أعلق البالونات، ألصق الأراجوز على الحائط أعود أميرة صغيرة جميلة يحوم حول وجودها الكون كله. فرق بين دفء الدنيا في الثامنة و«لسعتها» في الثامنة والثلاثين، ولكن، تبقى رحلتها رائعة، مثيرة ومفعمة بكل تلك المشاعر التي تجعلنا بشرا: خوف وحب وتردد، ندم وإقبال وإصرار، عناد وتمسك، مداورة ومناورة، تجعل للحياة طعماً ولوناً ورائحة، كلون بالونات ياسمينة، وطعم كعكة عيد ميلادها، ورائحة راحة يدها بعد وجبة من الحلويات الدسمة.
مرّ الاسبوع الماضي بقسوة، حافراً خطوطاً في قلبي، ولكنه كان تمريناً رائعاً لعقلي، اختباراً صاخباً لمبادئي ومثلي، وكان ختامه مسكاً: كعكة وبالونات وبيتا يصطخب بالصغار، ويضج بنا نحن الأمهات، ننتحي جانباً نستجدي فيه هدوءاً من العفاريت الصغيرة لنهمهم نحن بأخبار الكبار. نفرقع مزحات خالية من كل معنى إلا للضحك الصافي، ونضحك ملء الأشداق المحمرة والخدود الملونة، ونحن «ننم» على رجالنا، بينما تتجه أطراف عيوننا للصغار، نحملهم نظرات عشق وهيام لهم ولآبائهم الذين لا نفتأ ننالهم بالنميمة واللوم والتقريع.
يا لحياتي الرائعة الصاخبة الجميلة، وما هي الدنيا لو عشناها «جنب الحائط»، نخبئ مبادئنا ومثلنا تحت عباءات الخوف. نحبس مساندتنا عن هؤلاء الذين يمشون في منتصف الطريق وحدهم. نسير بهدوء من أجل لقمة العيش، ورضا الناس، وفي الطريق نكتشف أن اللقمة ذابت، ورضا الناس خلف غضباً ورفضاً تجاه أنفسنا. يا لضياع العمر إن لم نعشه كبالونات ياسمينة، ألواننا فاقعة. أجسادنا طائرة. لا نخشى أن نرتفع ونرتفع إلى أن ينتهي هواؤنا، فنهبط بحنو وسلام على الأرض بعد رحلة رائعة وجريئة... وملونة.
آخر شي:
لا يفوتني أن أرسل بالونة ملونة لكل من أرسل ضمادة جميلة خلال الأسبوع الفائت. تجمعت ضماداتكم الطيبة حتى غطت الألم، وفاضت على مساحته. ولمن أرسل ملحاً يرشه على الجرح أقول، أحياناً الملح دواء، وإن كان مؤلماً، وتمريناً للعقل والقلب، للفكر والمشاعر، لكم أرسل بالوناتين: حمراء تشكركم وبيضاء تعلن أن السلام في قلبي لا «يحمضه» ملح بحار الدنيا بأكملها. وبالونة خضراء نقية لقلب لا أستحقه، وأنا أسمعه يرد على النقد فيقول «هذا رأينا وليس لدينا ما نخفيه، نحن ثابتون على موقفنا» أقبل جبينك يا «ولد مظفر»، ليس لدفاعك، لكن لإشارتك لنا كشخص واحد، ورأي واحد، فضاعف قوتي، وتوأمني معك، فلا أشعر بوحدة بعدها أبدا.
وأخيراً بالونة قوس قزح لزيارة والديّ لي صباح «يوم الهجوم» وتطييب خاطري بالقبلات، وبهدية مالية حتى أشتري لنفسي ما أرفه به عن قلبي.. ترى هل لايزالان يعتقدان أنني في الثامنة؟
محبتي لكل من تواصل. عيد ميلاد سعيد لكل من أضاف سنة لعمره يوم أضافت ياسمينة سنتها الثامنة لعمرها.. دمتم بحب وحرية وسلام.
عندها تصبح القيود انعتاقاً
وانطلاقاً إلى عزيز الأماني»..
غازي القصيبي
أكتب لكم وأنا على أعتاب حفلة ياسمين، وردتي عمرها اليوم ثماني سنوات، ثماني سنوات مفعمة، كل دقيقة رشرشتها ياسمينة بقبلات الطفولة المبللة، بدموع دلع أحلى من العسل، بطبعات أصابعها اللزجة على شبابيك البيت، بقايا الشكولاته على مكتبي، شخابيطها تسربها على أوراق عملي، سنوات لن يكون مثلها في حياتي بعد أبداً. أتطلع في وجهها وأنا أجوب أطراف بيتي الصغير، لأضيف لمسات طفولية تخفف من آثار «الكبار» الذين يعيشون فيه، من صرامتهم وجمود تحَفهم وجدية معلقاتهم ولوحاتهم.
أغطي هذه اللوحة لامرأة جميلة حزينة على حائط غرفة الطعام، بصورة طفولية لأراجوز مطبوع أسفله بحروف ملونة صارخة «عيد ميلاد سعيد يا ياسمين». أزيل هذه «الفازة» الباهظة الثمن التي استلمناها هدية منزلنا الجديد، وأضع مكانها باقة ورود ورقية صنعتها ياسمين بنفسها قبل يومين، استعداداً للحدث الكبير المهم. أملأ السقف المغطى بديكور رتيب وممل ببالونات طائرة ملونة تحلق في سماء البيت الصغير. يقفز قلبي فرحاً وأنا أتذكر أعياد ميلادي. أتذكر التاج الأبيض الذي أصررت أن ألبسه في ميلادي الثامن، والفستان الأبيض «يدور ويدور»، وهو تعبير تفهمه الصغيرات فقط، لأنني أميرة، ولأنني جميلة، ولأنني أهم إنسانة في الدنيا.
يا لزخم براءتنا ونحن نعتقد أننا أميرات، وأننا محور الدنيا، ونحن نعبث في سنوات طفولتنا النقية الخلابة. أنظر لياسمين من طرف عيني، تركض هنا وهناك، تسهم في إعداد الطعام بطبعات أصابعها على قالب الكيك، «تعصّب» على طلال، أخيها الكبير، لأنه يغيظها ويعايرها بأنها «بيبي» لا تستطيع قيادة السيارة مثله. تركض إلى حضن أختها صفاء، وتصر أن تراجع معها المسابقات التي سيلعبانها مع ضيوفهما المهمين.
ديني ودنياي أنتم يا صغار، فرحتي وزوغ قلبي، جنتي ونار روحي، مع كل واحد منكم أعيش سنوات طفولتي الخلابة، في كل عيد ميلاد أعلق البالونات، ألصق الأراجوز على الحائط أعود أميرة صغيرة جميلة يحوم حول وجودها الكون كله. فرق بين دفء الدنيا في الثامنة و«لسعتها» في الثامنة والثلاثين، ولكن، تبقى رحلتها رائعة، مثيرة ومفعمة بكل تلك المشاعر التي تجعلنا بشرا: خوف وحب وتردد، ندم وإقبال وإصرار، عناد وتمسك، مداورة ومناورة، تجعل للحياة طعماً ولوناً ورائحة، كلون بالونات ياسمينة، وطعم كعكة عيد ميلادها، ورائحة راحة يدها بعد وجبة من الحلويات الدسمة.
مرّ الاسبوع الماضي بقسوة، حافراً خطوطاً في قلبي، ولكنه كان تمريناً رائعاً لعقلي، اختباراً صاخباً لمبادئي ومثلي، وكان ختامه مسكاً: كعكة وبالونات وبيتا يصطخب بالصغار، ويضج بنا نحن الأمهات، ننتحي جانباً نستجدي فيه هدوءاً من العفاريت الصغيرة لنهمهم نحن بأخبار الكبار. نفرقع مزحات خالية من كل معنى إلا للضحك الصافي، ونضحك ملء الأشداق المحمرة والخدود الملونة، ونحن «ننم» على رجالنا، بينما تتجه أطراف عيوننا للصغار، نحملهم نظرات عشق وهيام لهم ولآبائهم الذين لا نفتأ ننالهم بالنميمة واللوم والتقريع.
يا لحياتي الرائعة الصاخبة الجميلة، وما هي الدنيا لو عشناها «جنب الحائط»، نخبئ مبادئنا ومثلنا تحت عباءات الخوف. نحبس مساندتنا عن هؤلاء الذين يمشون في منتصف الطريق وحدهم. نسير بهدوء من أجل لقمة العيش، ورضا الناس، وفي الطريق نكتشف أن اللقمة ذابت، ورضا الناس خلف غضباً ورفضاً تجاه أنفسنا. يا لضياع العمر إن لم نعشه كبالونات ياسمينة، ألواننا فاقعة. أجسادنا طائرة. لا نخشى أن نرتفع ونرتفع إلى أن ينتهي هواؤنا، فنهبط بحنو وسلام على الأرض بعد رحلة رائعة وجريئة... وملونة.
آخر شي:
لا يفوتني أن أرسل بالونة ملونة لكل من أرسل ضمادة جميلة خلال الأسبوع الفائت. تجمعت ضماداتكم الطيبة حتى غطت الألم، وفاضت على مساحته. ولمن أرسل ملحاً يرشه على الجرح أقول، أحياناً الملح دواء، وإن كان مؤلماً، وتمريناً للعقل والقلب، للفكر والمشاعر، لكم أرسل بالوناتين: حمراء تشكركم وبيضاء تعلن أن السلام في قلبي لا «يحمضه» ملح بحار الدنيا بأكملها. وبالونة خضراء نقية لقلب لا أستحقه، وأنا أسمعه يرد على النقد فيقول «هذا رأينا وليس لدينا ما نخفيه، نحن ثابتون على موقفنا» أقبل جبينك يا «ولد مظفر»، ليس لدفاعك، لكن لإشارتك لنا كشخص واحد، ورأي واحد، فضاعف قوتي، وتوأمني معك، فلا أشعر بوحدة بعدها أبدا.
وأخيراً بالونة قوس قزح لزيارة والديّ لي صباح «يوم الهجوم» وتطييب خاطري بالقبلات، وبهدية مالية حتى أشتري لنفسي ما أرفه به عن قلبي.. ترى هل لايزالان يعتقدان أنني في الثامنة؟
محبتي لكل من تواصل. عيد ميلاد سعيد لكل من أضاف سنة لعمره يوم أضافت ياسمينة سنتها الثامنة لعمرها.. دمتم بحب وحرية وسلام.